04 نوفمبر 2024
لا بديل عن التوافق في تونس
تتسارع التطورات السياسية في تونس، على وقع مناكفات سياسية حادّة، لا تنتهي من أجل إعادة صياغة الخريطة السياسية في ضوء موازين قوى متغيرة، وذلك قبل أقل من سنة على الانتخابات التشريعية والرئاسية المتوقع إجراؤها في شهر أكتوبر/تشرين الأول في العام المقبل.
لا تهدأ الخريطة السياسية في تونس، وهي كالرمال المتحرّكة منذ الثورة: أحزاب تنشأ وتتوالد بسرعة، حتى فاقت المائتي حزب، كما أن عشرات منها تختفي وتندثر بالسرعة نفسها التي وُلدت بها، ولا يمر شهر أيضا من دون أن تقترب أحزابٌ من بعضها بعضا، في شكل تحالفات أو جبهات. وفي النسق نفسه، تبتعد أحزاب عن بضعها بعضا، وتفك ارتباطاتها وتحالفاتها السابقة. وبقدر ما شهدت الخريطة السياسية هذه انصهاراتٍ، فإنها شهدت أيضا انقساماتٍ وانسلاخاتٍ، تكاد تكون سمةً تونسية بحتة من فرط تعدّدها.
ولكن، يظل وسط الخريطة السياسية، أي تلك البقعة الوسطى التي هي على يسار حركة النهضة، وتمتد حتى جوار الجبهة الشعبية، هي الأكثر حراكا وتململا لما فيها من سيولة، مقارنةً مع الأمكنة الأخرى التي جمدت أو تكلست، بفعل اليقين الأيديولوجي الراسخ أو الزعامات الفائضة على اللزوم، إذ ظلت أحزاب اليسار هذه ثابتةً، حذرةً في تحالفاتها القليلة، دائمة التبرّم من العمل الجبهوي الذي جرّبته أحيانا، على الرغم من عدم مردوديته، على غرار الانتخابات البلدية التي جرت في آخر الربيع الماصي. خلاف ساحة الوسط تلك، تتحصّن الجبهة الشعبية، المكونة من اليسار وبعض الأحزاب القومية، داخل متاريسها الأيديولوجية والسياسية، وترسّخ قدميها في رخام الأيديولوجيا، حتى لا تتزعزع قناعاته.
يتفاخر اليسار في تونس بأنه "ثابت على ثوابته"، في حين أن الكل يتحرّك، إلا هو منغرسٌ في
يقين الأيديولوجيا، حتى ظل البوصلة في رمال متحرّكة هي أصلا. يُصاب الكل بالدوار أحيانا من فرط حركة السياسة في تونس ومرونتها، ويظل اليسار محدّقا فيما يُعتقد أنها ثوابت، حتى يغفل عمّا يدور حوله.
بعد أن أعلن الرئيس الباجي قائد السبسي نهاية التوافق بين حزب نداء تونس الذي أسسه وحركة النهضة، كانت معظم أسئلة الطبقة السياسية تدور حول من سيملأ الفراغ الذي تركه هذا التوافق، حتى لو سلّمنا، كما يدّعي مناهضوه، أنه مغشوش وهشّ.. إلخ، فقد منح هذا التوافق حوارا وطنيا جنّب البلاد الانزلاق نحو دائرة العنف، كما منح انتخاباتٍ ضخّت شرعيةً قانونيةً على هيئات الحكم المختلفة من الرئاسة والبرلمان والحكومة، وأخرجها من دائرة المؤقت، وضمن استقرارا سياسيا لا يمكن نكران قيمته، على الرغم من أن الحصيلة لم تكن وافرة، غير أن هذا لا يعني أنه كان خاليا من عيوبٍ عديدة يُجمع بعضهم على أنها تجلت تحديدا في إضعاف المعارضة، وتلبيس هوية من يحكم، خصوصا: "النهضة" أم "نداء تونس". وقد يكون ذلك مجرد اختراعٍ لتجنب المساءلة، وتحديد المسؤوليات، في ظل ناخب تونسي، برهن أنه مزاجي، وأنه يعاقب انتخابيا كأشد ما يكون العقاب، وكلنا ما زال يستحضر تراجع حركة النهضة المحير في انتخابات 2014، وسقوط حزب نداء تونس في الانتخابات البلدية في مايو/أيار الماضي.
ما أن أعلن رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، عن موت ذلك التوافق، حتى سارعت "النهضة" إلى محاولة إحيائه، وتتالت التصريحات والزيارات التي أدّاها تحديدا رئيس الحركة، راشد الغنوشي، غير أن كل تلك المحاولات الحثيثة باءت بالفشل، بل صدرت تصريحاتٌ مضادّةٌ ومتشنجة عن بعض قيادات "نداء تونس"، ترى في هذه المساعي تذللا لحركة النهضة، ورغبة منها في استدامة مظلةٍ منحها الباجي للتستر على تجاوزاتها السياسية والأمنية، في ظل تزامنٍ مريب مع موجة اتهاماتٍ غير مسبوقةٍ، وجهها لها خصومها، تتلخص في تشكيل أجهزة سرية وأمنية موازية، لا علاقة لها بالاغتيالات السياسية التي شهدتها تونس بعد الثورة.
لم تعبأ "النهضة" بهذه الاتهامات، ولم تنتظر طويلا نهاية التوافق، بعد أن استنفدت جهودا مضنية في إحيائه، كما أشير سابقا، خصوصا وقد سارعت فصائل سياسية إلى تنشيط الاتصالات بها، وعرض أشكال مختلفة من التحالفات عليها. وتجلى ذلك في لقاءات ماراثونية تشي مؤقتا بأن حزب نداء تونس سيكون الخاسر الأبرز في غيابه عنها، خصوصا في ظل تواصل تشرذمه، وسلوكات قياداته المتهوّرة التي لم تتورّع عن تجميد رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، من صفوفه، وهرولة بعضهم إلى إعلان "بيعة الوراثة"، بشكل مبكر، ولا يليق بثورةٍ يفترض أن ترسّخ قيم الاستحقاق والجدارة السياسية، خصوصا أن حافظ السبسي، نجل الرئيس، لا مؤهلات سياسية لديه ليكون قياديا بارزا في حزب أبيه.
في ظل هذه التحولات المتسارعة، تشكلت كتلة برلمانية، هي الثالثة حاليا من حيث جحمها، إذ بلغت نحو خمسين نائبا، ويتوقع أن ينضم إليها مزيدٌ من النواب القادمين تحديدا من حزب نداء تونس، خصوصا أن الشكوك، في ظل الأداء الكارثي لمديره التنفيذي نجل الرئيس، تتعاظم من يوم إلى آخر بأنها ستكون النواة التي بها سيشكل حزب جديد في الأشهر القليلة المقبلة، وهو السبب الذي أدّى بسرعةٍ فائقةٍ إلى انسلاخ عشرة نواب عنها، أعضاء في حزب الاتحاد الوطني الحر.
في مقابل هذا الانسحاب المفاجئ لأعضاء حزب الاتحاد الوطني الحر، انصهر الحزب هذا
بأكمله مع حزب نداء تونس، في ما يشبه صفقة الخاسر مع الخاسر، إذ لا أحد مرشّحا لإنقاذ الآخر أو إغنائه، ويتزامن ذلك أيضا مع تقاربٍ غريبٍ بين محسن مرزوق (السياسي الطموح الذي أدار الحملة الانتخابية للرئيس الباجي السبسي، ثم انسلخ عن حزب نداء تونس، ليشكل حزبه الخاص به، مشروع تونس) و"النهضة"، وقد عقدت بين الطرفين لقاءات ومشاورات على خلفية تشكيل الحكومة الجديدة، وهي المرة الأولى التي يقبل فيها مرزوق إجراء محادثاتٍ مع "النهضة" التي كان يعدّها، إلى وقتٍ قريب، أصل داء تونس وشرورها. وقد أكّد الرجل، في معرض هذا التقارب، نهاية الصراعات الأيديولوجية مع "النهضة"، وهي صراعاتٌ، في اعتقاده، كان الدستور قد حسمها.
السؤال الأهم في كل هذه الدينامية والحركية التي تعرفها الخريطة الحزبية في تونس: هل ينجو حزب رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، المرتقب الإعلان عنه من الأمراض التي استفحلت في أحزاب الوسط، خصوصا التي تناسلت بأشكالٍ مختلفةٍ من "نداء تونس"؟ وهل يقدر أن يكون هذا الحزب، إن قدّر له أن يرى النور، الحصان الرابح الذي يستجيب لطموحات الشاهد، السياسية الواسعة، وهل تجد فيه "النهضة" بديلا عن شريكها الأسبق، أي حزب نداء تونس الذي شكلت به التوافق، وصنعت، إلى حد ما، المشهد السياسي في تونس لما بعد الثورة؟
لا تهدأ الخريطة السياسية في تونس، وهي كالرمال المتحرّكة منذ الثورة: أحزاب تنشأ وتتوالد بسرعة، حتى فاقت المائتي حزب، كما أن عشرات منها تختفي وتندثر بالسرعة نفسها التي وُلدت بها، ولا يمر شهر أيضا من دون أن تقترب أحزابٌ من بعضها بعضا، في شكل تحالفات أو جبهات. وفي النسق نفسه، تبتعد أحزاب عن بضعها بعضا، وتفك ارتباطاتها وتحالفاتها السابقة. وبقدر ما شهدت الخريطة السياسية هذه انصهاراتٍ، فإنها شهدت أيضا انقساماتٍ وانسلاخاتٍ، تكاد تكون سمةً تونسية بحتة من فرط تعدّدها.
ولكن، يظل وسط الخريطة السياسية، أي تلك البقعة الوسطى التي هي على يسار حركة النهضة، وتمتد حتى جوار الجبهة الشعبية، هي الأكثر حراكا وتململا لما فيها من سيولة، مقارنةً مع الأمكنة الأخرى التي جمدت أو تكلست، بفعل اليقين الأيديولوجي الراسخ أو الزعامات الفائضة على اللزوم، إذ ظلت أحزاب اليسار هذه ثابتةً، حذرةً في تحالفاتها القليلة، دائمة التبرّم من العمل الجبهوي الذي جرّبته أحيانا، على الرغم من عدم مردوديته، على غرار الانتخابات البلدية التي جرت في آخر الربيع الماصي. خلاف ساحة الوسط تلك، تتحصّن الجبهة الشعبية، المكونة من اليسار وبعض الأحزاب القومية، داخل متاريسها الأيديولوجية والسياسية، وترسّخ قدميها في رخام الأيديولوجيا، حتى لا تتزعزع قناعاته.
يتفاخر اليسار في تونس بأنه "ثابت على ثوابته"، في حين أن الكل يتحرّك، إلا هو منغرسٌ في
بعد أن أعلن الرئيس الباجي قائد السبسي نهاية التوافق بين حزب نداء تونس الذي أسسه وحركة النهضة، كانت معظم أسئلة الطبقة السياسية تدور حول من سيملأ الفراغ الذي تركه هذا التوافق، حتى لو سلّمنا، كما يدّعي مناهضوه، أنه مغشوش وهشّ.. إلخ، فقد منح هذا التوافق حوارا وطنيا جنّب البلاد الانزلاق نحو دائرة العنف، كما منح انتخاباتٍ ضخّت شرعيةً قانونيةً على هيئات الحكم المختلفة من الرئاسة والبرلمان والحكومة، وأخرجها من دائرة المؤقت، وضمن استقرارا سياسيا لا يمكن نكران قيمته، على الرغم من أن الحصيلة لم تكن وافرة، غير أن هذا لا يعني أنه كان خاليا من عيوبٍ عديدة يُجمع بعضهم على أنها تجلت تحديدا في إضعاف المعارضة، وتلبيس هوية من يحكم، خصوصا: "النهضة" أم "نداء تونس". وقد يكون ذلك مجرد اختراعٍ لتجنب المساءلة، وتحديد المسؤوليات، في ظل ناخب تونسي، برهن أنه مزاجي، وأنه يعاقب انتخابيا كأشد ما يكون العقاب، وكلنا ما زال يستحضر تراجع حركة النهضة المحير في انتخابات 2014، وسقوط حزب نداء تونس في الانتخابات البلدية في مايو/أيار الماضي.
ما أن أعلن رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، عن موت ذلك التوافق، حتى سارعت "النهضة" إلى محاولة إحيائه، وتتالت التصريحات والزيارات التي أدّاها تحديدا رئيس الحركة، راشد الغنوشي، غير أن كل تلك المحاولات الحثيثة باءت بالفشل، بل صدرت تصريحاتٌ مضادّةٌ ومتشنجة عن بعض قيادات "نداء تونس"، ترى في هذه المساعي تذللا لحركة النهضة، ورغبة منها في استدامة مظلةٍ منحها الباجي للتستر على تجاوزاتها السياسية والأمنية، في ظل تزامنٍ مريب مع موجة اتهاماتٍ غير مسبوقةٍ، وجهها لها خصومها، تتلخص في تشكيل أجهزة سرية وأمنية موازية، لا علاقة لها بالاغتيالات السياسية التي شهدتها تونس بعد الثورة.
لم تعبأ "النهضة" بهذه الاتهامات، ولم تنتظر طويلا نهاية التوافق، بعد أن استنفدت جهودا مضنية في إحيائه، كما أشير سابقا، خصوصا وقد سارعت فصائل سياسية إلى تنشيط الاتصالات بها، وعرض أشكال مختلفة من التحالفات عليها. وتجلى ذلك في لقاءات ماراثونية تشي مؤقتا بأن حزب نداء تونس سيكون الخاسر الأبرز في غيابه عنها، خصوصا في ظل تواصل تشرذمه، وسلوكات قياداته المتهوّرة التي لم تتورّع عن تجميد رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، من صفوفه، وهرولة بعضهم إلى إعلان "بيعة الوراثة"، بشكل مبكر، ولا يليق بثورةٍ يفترض أن ترسّخ قيم الاستحقاق والجدارة السياسية، خصوصا أن حافظ السبسي، نجل الرئيس، لا مؤهلات سياسية لديه ليكون قياديا بارزا في حزب أبيه.
في ظل هذه التحولات المتسارعة، تشكلت كتلة برلمانية، هي الثالثة حاليا من حيث جحمها، إذ بلغت نحو خمسين نائبا، ويتوقع أن ينضم إليها مزيدٌ من النواب القادمين تحديدا من حزب نداء تونس، خصوصا أن الشكوك، في ظل الأداء الكارثي لمديره التنفيذي نجل الرئيس، تتعاظم من يوم إلى آخر بأنها ستكون النواة التي بها سيشكل حزب جديد في الأشهر القليلة المقبلة، وهو السبب الذي أدّى بسرعةٍ فائقةٍ إلى انسلاخ عشرة نواب عنها، أعضاء في حزب الاتحاد الوطني الحر.
في مقابل هذا الانسحاب المفاجئ لأعضاء حزب الاتحاد الوطني الحر، انصهر الحزب هذا
السؤال الأهم في كل هذه الدينامية والحركية التي تعرفها الخريطة الحزبية في تونس: هل ينجو حزب رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، المرتقب الإعلان عنه من الأمراض التي استفحلت في أحزاب الوسط، خصوصا التي تناسلت بأشكالٍ مختلفةٍ من "نداء تونس"؟ وهل يقدر أن يكون هذا الحزب، إن قدّر له أن يرى النور، الحصان الرابح الذي يستجيب لطموحات الشاهد، السياسية الواسعة، وهل تجد فيه "النهضة" بديلا عن شريكها الأسبق، أي حزب نداء تونس الذي شكلت به التوافق، وصنعت، إلى حد ما، المشهد السياسي في تونس لما بعد الثورة؟