كورنيش بيروت: الحبّ والمذهبية والنّضال والقهوة...

31 أكتوبر 2014
الصيادون الذين كانوا يوماً بالعشرات اختفوا (حسين بيضون/العربي الجديد)
+ الخط -
لم يعد هذا الكورنيش يُشبه المكان الذي كان عليه. بات يُشبه بيروت أكثر. تخسر هذه المدينة يوماً بعد آخر، شيئاً من صورتها التي رسمناها في عقولنا، نحن أبناء الريف الذين هربنا صوب المدينة، معتقدين أنّ فيها من الحرية ما يستوعب أحلامنا. رسمنا بيروت كما أردناها أن تكون. لكنها لم تحتمل هذه الأحلام الصغيرة.

حتّى الصيادون الذين كانوا يوماً بالعشرات اختفوا. صار عدّهم لا يحتاج أكثر من أصابع اليدين. هذا حال الصيادين الهواة ممّن يحملون قصبات الصيد، وحال الصيادين التقليديين ممّن يجولون البحر في قوارب صيد لا يعلم سواهم كيف لها أن تصمد في وجه الأمواج. تحوّلوا من صيادين إلى عمالٍ، أو عاطلين من العمل. لم يعد البحر كريماً معهم. أصلاً كيف يكون كريماً مع البشر، وقد ردموا شاطئه، وغيروا معالمه، وانتهى الأمر بهم إلى تحويله مصبّاً لقاذورات مدينتهم.


يعرف الكورنيش البحري لهذه المدينة الكثير من أسرار أبنائها. هذا الذي بكى حبيبةً هجرته، وذاك الذي تحسّر على عملٍ لم يحصل عليه أو طُرد منه. يعرف الكورنيش قصص هؤلاء وأكثر من ذلك. يعرف قصّة هذا العجوز الذي ينزل يومياً إليه فجراً ليُمارس روتيناً عمره عشرات السنين.


يُمكن للكورنيش أن يروي كم صبية أحضر ذاك الشاب، وكيف أخبرهنّ جميعاً الكذبة عينها طمعاً بقبلة. أكثر من يعرفهنّ الكورنيش هنّ تلك الأمهات اللواتي قررنَ أن يمشينَ خطوةً خلف بناتهنّ وأصهرتهنّ المستقبليين. خطوة يعتقدن أنّها تمنع الشيطان من ممارسة رذيلته بين الحبيبين. هؤلاء الأمهات يكرههن الكورنيش.

كثيراً ما شربنا القهوة ليلاً وراقبنا أمواج البحر تجتاح البلاطات الرمادية. بيروت أجمل عندما تحاول رؤيتها من هنا. لا أحد يفرض عليك أن تدفع رسماً مقابل الجلوس على المقعد. فهذه المساحة الوحيدة لعموم سكان بيروت التي لم يصادرها حيتان المدينة. وهنا أيضاً لا أحد يمنعك من السهر والغناء وصيد السمك. هكذا يتحوّل الكورنيش إلى رئة المدينة.


لكنّه يُشبه بيروت. صار للمذهبية ركنٌ هنا. هذا المذهب يزور الكورنيش صباحاً، والمذهب الآخر يزوره ليلاً. تشعر بذلك من اللغة والأحاديث. أصلاً، أجمل ما في كورنيش بيروت الجلوس والاستماع إلى قصص الناس. هذه تتحدّث عن زوجها الذي يخونها، وذاك عن مديره الذي يسرق. أمّا تلك الصبية، فإنها لا تحكي. تمشي مسرعة. تريد أن تحرق الكثير من الوحدات الحرارية على وقع موسيقى ما. تُسرع ولا تنظر حولها. لا تكترث لبعض التعليقات الخارجة من هذا الفم أو ذاك. تمشي وتمشي.

يُمكن لبائع القهوة في الجهة الأخرى من الشارع أن يُخبرك قصص هؤلاء كلهم. أمّا ليلاً فيختلف المشهد. يكثر الشبان المتحلقون في مجموعات. تسمع أغاني علي الديك، أو "الديك" الآخر حسين، تخرج من مكبرات صوت السيارات المركونة جانباً. يُفتح غطاء الصندوق ليخرج الصوت أعلى. مشهد الرياضة الصباحي، تُسيطر عليه النرجيلة ليلاً. تُصبح التعليقات أكثر حدّة.

هنا أيضاً تسمع قصص الذين رحلوا. قصص رفاق الليل. كنّا نأتي بعد منتصف الليل، من العمل أو بعد انتهاء السهرة. نمشي ونحكي ونشرب القهوة أو الزهورات. معظم نقاشاتنا حصلت هنا. توزّع الرفاق ميمنة وميسرةً. منهم من غادر ليعمل في الخليج، وآخرون وضعوا عائلاتهم في حقائب وذهبوا إلى بلاد بعيدة، مهاجرين، يطمحون بحياة أكثر أماناً واستقراراً.



صارت زيارة الكورنيش تعذيباً ذاتياً. هي استذكار لمن غادر. استعادة للحظات ظننّا فيها أنّ التغيير ممكن في بيروت. انتسبنا إلى أحزاب، ورفعنا الشعارات وخضنا النقاشات. تظاهرنا. وضربنا العسكر. نشطنا في جامعاتنا. واعتدى علينا ممثّلو قوى الأمر الواقع. فكّرنا وحاولنا وفشلنا. اكتشفنا لاحقاً أنّ بيروت أعقد من أن تُغيّر.

تبيّن لنا أن "السيستم" الحاكم أقوى مما كنا نظن بكثير. علمنا لاحقاً، أن الجميع شريك في هذا "السيستم". كفرنا بأحزابنا، وأُحبطنا. معظم من رفض الدخول في هذا "السيستم" غادر بحثاً عن حياة وفرص أفضل. القلّة التي بقيت هنا، لا تملك إلا بعض الأطلال تبكي عليها، وبعض الأحلام الصغيرة بأن تبني عائلة صغيرة، وتُحافظ على "شلة" من الأصحاب، ممن رفضوا هذا "السيستم".

هذا الكورنيش جميل جداً. وهذا الكورنيش قبيح. لا يُمكن تحديد الموقف منه. تماماً كبيروت. العلاقة معها معقّدة، علاقة حبّ وكراهية. لا يُمكن مغادرتها، ولا يُمكن العيش فيها. لا تستوعب أحلامنا، لكنّها لا تترك لنا حرية المغادرة. أنانيةٌ هذه المدينة. أما نحن فمجرّد أبناء ريف لن تذكر بيروت أنّهم مروا فيها. لكنّنا لا نقوى على فراقها.
المساهمون