كرة الثلج اللزجة

22 ابريل 2018
+ الخط -
في السابق البعيد، كانت الجدالات السياسية والفكرية تعتمد على حوارات مباشرة في حضور أصحاب الآراء المختلفة إن تيسّر ذلك، أو، وبسبب المسافات البعيدة، على الرسائل المتبادلة بين المثقفين على مختلف تنوعاتهم، والتي امتدت سنوات طويلة، استطاع فيها المتحاورون أن يُطوّروا جنساً أدبياً بذاته. واعتمد المؤرخون على دراسة مخرجات هذا الكمّ الهائل من المراسلات، والمتوفر في المكتبات الجامعية، لتكوين فكرةٍ واسعةٍ ومعمّقةٍ عن الجو الفكري السائد في زمن هذه المراسلات. كما استطاع الباحثون تبيان أهم التيارات الفكرية التي شغلت المشهد العام في تلكم الحِقَب وتحليلها. ولقد احتوت بعض هذه المراسلات على حوارات حادة، وصلت ببعض معتنقيها إلى خطّ الشتائم الأدبية التي يستمتع المرء باستعادتها، بعيداً عن التشويق المُبتَذَل لما تحتويه من طرحٍ فكريٍ واضح. إذا، حتى في الشتائم، استطاع هؤلاء أن يرتقوا بالذائقة المتابعة إلى مراتب أدبية رفيعة، كما في "الشتائم" المتبادلة بين أرنست همنغواي وفرنسيس كوت فيزجيرالد في عشرينيات القرن المنصرم.
تطوّر الفكر الإنساني، من خلال هذا الجدل المعتمد على المعرفة والكتابة المُطوّلة. ومع تطوّر تقنيات الاتصال، صار لزاماً على أصحاب الفكر والقلم أن يتأقلموا مع هذه التقنيات وتشعباتها، ليُجاروا العصر وليستخدموا أدواته. وعلى الرغم من مقاومة بعضٍ متمسّكٍ بالتقنيات التقليدية، إلا أن غالبية ممتهني الفكر والتفكير وصلوا إلى قناعة مفادها بأن لا حياةً تعبيرية ستستمر، إن هم عزلوا أنفسهم عن التطور الجاري، وإن هم اعتقدوا بإمكان استمرار الاعتماد على التقليدي من المبادلات الفكرية. وهنا، وقع "المحظور".
ففي الوهلة الأولى، يكاد يكون الانخراط في "الحداثة" وملحقاتها التعبيرية فعلاً محموداً، إلا أنه تبيّن، خصوصاً في دولٍ وثقافاتٍ كان المنتمون إليها قد حُرموا، طوال عقود، من ممارسة 
الحرية، ولم يحظوا بمساحةٍ من إمكانية التعبير، ولو في حدودها الدنيا، بأن الأثر السلبي كان أكثر من الوقع الإيجابي في الممارسة الجديدة هذه: استخدام تقنيات التواصل الاجتماعي الحديث في نقل الأفكار والتعبير عنها والتعليق عليها.
لقد صار لٍزاماً على الباحث والمفكر والكاتب أن يختصر فكره وأفكاره في جمل مبسترة قدر الإمكان. ولهذا التمرين بعدان، إيجابي وآخر سلبي. في الجانب الإيجابي، من المؤكد أنه يُساعد على التركيز والاختصار. خصوصاً إن لاحظنا أن استخدام المترادفات والتكرار سمة سائدة في الكتابة باللغة العربية، حيث يشتكي المترجمون من العربية إلى اللغات الحية الأخرى من تكرار الفكرة بعبارات مختلفة. إذاً، تدفع الحداثة التواصلية صاحب الرسالة المعني إلى تطوير طرق تعبيره، واختصار المكرّر، والابتعاد عن التنميق في اللغة، وعدم جعلها هدفاً بذاته، وإنما وسيلة لإيصال فكرة محددة بجملة محدودة. يساعد هذا التمرين أيضاً، أي الاختصار للتعبير الدقيق، الباحثين على تحديد أفكارهم، وطرحها في عجالة لا تسمح بالاسترسال، وهذا مفيدٌ للغاية، من خلال التجربة الشخصية للتحضير للمداخلات الشفهية.
من جانب آخر، قد يؤدي اختزال الأفكار المركّبة أو الملاحظات المعقّدة بكاتبها إلى إهمال التفكير الجاد في مضمونها. كما يمكن أن يسعى الكاتب إلى تبسيط الفكرة، في محاولة مقبولة لجذب العدد الأكبر من "العامة". وبالتالي، فهو ينزع اللباس الفكري المنهجي المركّب ليستخدم لغة التواصل التي يمكن اعتبارها شديدة التبسيط، وقد نازعت أحياناً الصحافة الصفراء في تعابيرها.
يمكن أن يتضاعف هذا الخطر، حينما يُصار إلى فتح باب النقاش بشأن ما يرد في هذه اللغة المبسترة، فيتم جرّ الكاتب إلى جدلٍ سفسطائي خالٍ من الدسم، يعتمد على لغة التشكيك والتخوين والتكفير في أسوأ النماذج، أو على لغة التبخيس والتهكم في أحسنها. وإن امتنع 
صاحب التعبير المحفّز لهذه الردود والتعليقات عن الرد، تطور أمره لكي يُعتبر متعجرفاً وغير سائلٍ عن جموع المواطنين. وإن هو انغمس في رمال الردود المتحركة، سعياً إلى توضيح فكرة أو تطويرها، فسيجد أنه في طور الدفع بكرة ثلجٍ ليست ناصعة البياض، وهي تتضخّم كالأورام الخبيثة على صفحته التواصلية.
وكما أن ممارسة الرياضة بشكل مستمر ومنتظم تُنمي العضلات، وتحسّن من أداء الوظائف الحيوية، فإن الاعتماد على وسائل التواصل بانتظام، والسعي إلى تغذيتها بمحتوى فكري مصدره سامٍ، يمكن أن يؤدي بهذا الفكر وصاحبه إلى مستوياتٍ من الجدل الحامل لروائح غير محبّذة. وكما أنه يؤدي، في الغالب، إلى وقوع كثير من سوء الفهم الذي يؤدي إلى سوء التفاهم، ويتفاقم إلى مستويات منحدرة من التبادلية اللغوية.
هل الحل أن يبتعد أصحاب المشاريع الفكرية أو المثقفون أو الباحثون أو من في حكمهم عن هذه الوسائل، ويقاطعوا التعبير فيها؟ أعتقد بطوباوية هذا الحل، على الرغم من سعيي الشخصي مراراً وتكراراً إلى تبنيه. والأجدر بحملة الفكر أن يعتمدوا على أدوات التواصل الحديثة كوسائل مساعدة، أو حوامل لمواقف محددة وتعليقات مقيدة في الزمان وفي المكان، لا تحتمل تأويلاً، ولا تفتح باباً للمهاترات من كل حدب وصوب. لأن المتربصين لهم بالمرصاد، وفاقدي قيمة الوقت، وما أكثرهم، قادرون على سحبهم إلى ميادين ليست لهم، تحمل خطورة الانزلاق في لزوجة مرّة.
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا
سلام الكواكبي
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا