كارما أريناس: يحدُث في كتالونيا

13 يوليو 2018
(كارما أريناس، تصوير: لؤي الباشا)
+ الخط -

تضيء الناقدة والمترجمة والناشطة الثقافية الكتالانية كارما أريناس (1954) في حديثها إلى "العربي الجديد" مشهد الثقافة في كتالونيا، بنقائصه وروحه النضالية من أجل ترسيخ أقدامها كثقافة مستقلة. كما تعرّج في الحديث معها على الأدوار التي يمكن أن تلعبها الترجمة.


لنبدأ من عملك ناشطة ثقافية..
- أنا من جيل مثقفين جمعتهم الرغبة في الحفاظ على اللغة والثقافة الكتالانيّتين، اللتين لا مؤسسات دولة لديهما كي تحميهما وتحافظ عليهما. هذا العمل، عوِضَ أن يكون عمل مؤسسات، كان عمل أشخاص، رجالاً ونساء، لزمن طويل ومرير. لم أذهب أبداً لأبحث عن منصب أو مسؤولية. الآخرون دائماً ينادونني، بما أملك من تجربة ومعرفة للعمل في مواقع كهذه. فلقد كنت مديرة "جمعية كتّاب اللغة الكتالانية" لثلاث سنوات، ثم ترأست "الجمعية الدولية لحماية اللغات المضطهدة" (لينغوا ياكس)، هنا في برشلونة، وهي جمعية نشأت تحت رعاية يونسكو، وظللت معهم حوالي خمس سنوات. ثم انتقلت لرئاسة "نادي القلم" الكتلاني، لمدة ثماني سنوات.


هل تشعرين برضا ضمير أنك قدّمت شيئاً ما لحلم مواطنيك بالاستقلال؟
- بكل تواضع، نحن زدنا قطرة على عمل من سبقونا من مؤسسات وشعب وأشخاص للقضية الوطنية.


■ ماذا عن تجربة "نادي القلم" في برشلونة، وقد انتهت رئاستك له مؤخراً؟
- عمر هذا النادي قرن من الزمان، وهذه مسؤولية جسيمة ملقاة على عاتقنا لحماية وصون وتعزيز هذا الإرث؛ حماية شرف كل الناس كتّاباً وشعراء، هؤلاء الذين خلقوا وشاركوا في صناعة النادي في عقود أقل ما يقال عنها: كانت رمادية وحرجة. مسؤوليتنا ألا يضيع عملهم، أن نصونه ونطوّره ونضيف إليه. وأنا ككل المشاركين المنخرطين، وجدنا قبل سنوات أن هذا النادي في حالة نكوص؛ كان يعيش حالة شلل مؤلم. لكننا بذلنا جهوداً لاسترجاعه واسترجاع سمعته. قمنا بأشياء لتحديثه، واشتغلنا على التعريف بثقافتنا ولغتنا الأم، كما حرصنا على استقبال والتفاعل مع ما يحدث في العالم الثقافي الخارجي إلى داخل كتالونيا. ولهذا انخرطنا مع "الإيكورن" وكل هدفنا هو معرفة واستدخال ما في العالم إلى ثقافتنا (مع حرص خاص على الانفتاح على الثقافة العربية العظيمة المجاورة). وسنواصل العمل على هذا النهج.


لن نستطيع تجاوز الأحداث السياسية الأخيرة في كتالونيا، بمَ تُعقّبين؟
- كتالونيا كشعب ووطن وثقافة، كانت دولة في القرن العاشر، لكن قبل ثلاثة قرون أصبحت اللغة الكتلانية وشعبها داخل وضمن دولة أخرى. وهذه الدولة لا تريدنا ولا تريد مساعدتنا، وهنا يُطرح السؤال: ماذا تريد أن تفعل بنا إسبانيا؟ هي في الوقت ذاته تمنع عنا الاستقلال بالقوة، فيما تواصل استنزاف مواردنا وحشرنا في الزاوية. أصلاً، ماذا نريد نحن؟ نريد أن نعيش كثقافة وكلغة لشعب كتالاني. هذه هي رغبتنا الأولى فقط. وهذا واجبنا: أن نوصل الرسالة للأجيال المقبلة، أن نناضل في هذا الطريق الموحش من أجل كل الذين سيولدون بعدنا. عندما تكون أمام دولة هدفها سحقك وتدميرك، فالشيء الأول الذي تفعله هو أن تدافع عن نفسك.


لننتقل إلى نشاطك في الترجمة، لمن تترجمين؟
- أترجم فقط الكتّاب الذين يعجبونني، الذين أتواصل معهم بالإحساس. لم أترجم قط بناء على طلب من دار نشر مهما كان حجمها.


من أقرب الأدباء الإيطاليين إلى ذائقتك الفنية؟
- ربطتني علاقة وثيقة مع كبار مبدعي إيطاليا، كلاسيكيين وحديثين. منهم إيتالو سفيفو، الروائي الذي كتب الرواية النفسية وكان تلميذ جيمس جويس. ترجمت له رواية كانت شديدة التعقيد، متراكبة، ونال عنها جائزة النقد. كما ربطتني علاقة مع إيتالو كالفينو، وبافيزه، وإمبرتو إيكو، وسواهم. أما الأخير فكان لي شرف التعرّف عليه شخصياً، وأعتبره من كبار مثقفي أوروبا في عصرنا. ترجمت له أربع روايات وكتاباً بعنوان "حول الأدب".


■ ما تتذكرين منه الآن؟
- أثناء ترجمتي لروايته "باودولينو". تحكي الرواية عن شاب يريد أن يكتب أدباً. في ذلك الوقت كان لدى الرهبان أوراق قديمة مكتوب عليها، فإذا شحت الأوراق، يمحون حبرها ويكتبون من جديد على نفس الورقة، وأحياناً تختلط الكلمات قديمها بجديدها. وجدت في النص فقرة عندما تقرؤها للمرة الأولى، تبدو لعينيك لغة قديمة. وبما أن إيكو ولد في أليساندرا شمال إيطاليا، وهؤلاء كان لهم في القرن 18 لهجة محلية خاصة بهم، فأنت عندما تقرأ الفقرة تظهر كتابة أمبرتو كلغة قديمة، بينما النص حديث، وهذا فخّ. في خضم الترجمة، وجدت كلمة لم أفهمها وسألت الإيطاليين المقيمين في برشلونة، دون جدوى. وعندما قدِم إيكو لتقديم الكتاب هنا، سألته فقال: هي كلمة مخترعة، ضعي بدلها أي كلمة. قلت: كيف أي كلمة؟ قال: أي كلام، أي كلام! كان في كتابته كباحث وعالم دقيقاً جداً، لكنه في الرواية يلعب بالكلمات. ففي كل رواية من أعماله يضع من ثلاثة إلى أربعة فخاخ، وهو عندما يراجع ترجمات رواياته، لا يقرأها، بل يقرأ هذه الأفخاخ ليطمئن أنها تُرجمت بشكل صحيح. مثلاً: ترجمتي هو قرأها فقال: جيدة. سألته: كيف عرفت وأنت لا تجيد الكتلانية؟ فقال عندي صديق فرنسي يتقنها وطمأنني على فخاخي! وعليه، فمقياس جودة الترجمة عنده، ألا يكون هنالك خلل في ترجمة الفخاخ، فإن كان، فالترجمة عنده: "غير صالحة".


■ بعد هذه الخبرة، ما هي مصاعب الترجمة، وخاصة لناشطة ثقافية مثلك؟
- أشتغل على معظم ترجماتي في إجازة الصيف، لكن قبل الشروع في العمل، أقرأ الكتاب؛ أبحث وأسجل ملاحظاتي حول الصعوبات الكامنة فيه. أثناء القراءة الثانية، أبدأ الترجمة في رأسي، وحين تأتي القراءة الثالثة، أترجم كتابياً بدون استراحة، حتى يكتمل العمل. فكل كتاب له روحه، له إيقاعه الخاص، صعوباته. والترجمة تختلف من كتاب إلى آخر. كما أنني كمترجمة لي إيقاعي الخاص؛ أترجم على نفس واحد، كي لا أكسر رتم روحي، وهذا يساعدني على البقاء مقيمة في موسيقى الكتاب وروحه.


تقصدين الانتهاء من ترجمة العمل كلياً؟
- نعم، فأنت عندما تبدأ في الترجمة، فإنك تتعوّد على موسيقى الكتاب. وحالما تنتهي المسودة الأولى، أركنها على جنب، وفي بالي أنني متعوّدة على محتوى الكتاب، حينئذ أبدأ بترجمة الصفحات الأولى: من 10 إلى 20 صفحة، بنفس الموسيقى. وإذا لم أكن أملك الوقت، أترك الكتاب، وأظل مسكونة بأشباحه، حتى تتوفر فرصة، فأكمله.


■ كم نسخة تعملين قبل وصول النسخة النهائية للناشر؟
- عندما تنتهي النسخة الأولى من الترجمة، أضعها جانباً وأنساها فترة، كما أنسى كذلك الكتاب الأصلي. ثم بعد وقت أعود للمخطوطة، ولا أقترب مطلقاً من الكتاب الأصلي. فقط أعود للمخطوطة، فأقرؤها مرة واثنتين، لأرى هل يصلح العمل للغتي الأم أم لا؟ هل دخل في روحها وسياقها؟ هل تم توطينه في تربتها؟ وهكذا. ثم أعود لقراءته مرتين، وينتهي الأمر.


ما هو العمل الذي أخذ منك الجهد الأكبر؟
- كل كتاب أترجمه أقول إنه الأصعب. فكل كتاب مختلف عن الآخر في ترجمته وقراءته. والكتاب الذي أترجمه حالياً هو كتاب للروائي جيسوالدو بوفالينو، وهو مكتوب باللهجة السيسيلية (جزر صقلية). إنها لهجة وعرة وثقيلة، كما أنه كتاب كُتب في خمسينيات القرن الماضي. وحقيقة أن هذا النص أصعب مما يبدو في القراءة الأولى، لكنني استطعت ترجمته وإنهاءه، بعد لأي، وانتهى الأمر!


أرى من خلال حديثك انحيازك لترجمة الرواية تحديداً؟
- أحياناً أطرح للآخرين نصوصاً للترجمة، وأحياناً يطرح الآخرون لي نصوصاً أغلبها روايات. عموماً، فإني لا أستطيع ترجمة الشعر، فإن صادفني نص شعري في رواية، أطلب من أصدقاء شعراء مساعدتي. طبعاً أفضل ترجمة النثر الروائي.


ما هي مشاكل الترجمة الأدبية في كتالونيا؟
- أولاً، لا يجد المترجمون التقدير، سواء على مستوى الاعتراف بالمهنة، أو على صعيد المردود المادي. فقط، أحياناً، يضع المؤلفون الصغار اسم المترجم على الغلاف. لكن في أوراق النقد بالصحافة لا يُحكى أبداً عن المترجم. ثانياً، لا يعيش المترجم هنا من الترجمة. أما المشكلة الكبرى فهي أن المؤلفين الكبار يقبضون معظم المال، بينما يكون كتّاب أحدهم قد ترجمه ستة أو سبعة مترجمين، ولك أن تتصور كيف يخرج الكتاب بكل هذا الشتات! هذا يحدث في الثقافات الكبرى، ولا يُشعر به، أما في ثقافة صغيرة كثقافتنا فهذه معضلة كبيرة، ففي أحيان يعودون إلى ترجمات في لغات أخرى للمقارنة. وكل ما سبق يكاد يكون جهداً بأجر رمزي. ربما لحسن الحظ أن المؤلفين الصغار يعطون قيمة أكبر للمترجم ونصه، بينما الكبار عملهم سريع ولا يهتمون لا بالمترجم ولا بأدبية العمل الذي بين أيديهم.


هل ثمة دعم من البلدية أو حكومة الإقليم؟
- المؤلفون يقبضون مساعدات من الحكومة أو بعض المؤسسات، فيما يقبض المترجمون قليلاً أو لا يقبضون بالمرة! وفي الأخير، يذهب الدعم إلى دورة الكتاب (الناشرين) وليس للمترجمين. للأسف، الوضع صعب.


سنعود إلى استعارة هيرقليطس عن النهر: ما هو الكتاب الذي ترجمته سابقاً وتودين الآن لو تعاودين ترجمته من جديد؟
- ترجمت كتباً ولم أجد أخطاء كبيرة فيها، لكني أشعر بأن اللغة تتغيّر وتتبدّل، وتموت كلمات وتولد كلمات أخرى. ففي كل 15 سنة تسقط حقوق المؤلف، وهكذا يمكن إعادة ترجمة الكتاب من جديد. مع ذلك، تبقى الترجمة كنهر هيرقليطس لا تكون هي نفسها في لحظتين. فالترجمة كالإبداع، لا حدود لها ولا نهايات. هذا أولاً، وثانياً، فإن الترجمة الجيدة في ثقافة عادية يجب مراجعتها بطريقة تدريجية. أنا أعدت ترجمة كتابين بعد عشر سنوات. هذا حيوي وجميل للغة وللثقافة أن تعيد وتراجع ترجمة كتب بعد عشر سنوات أو بعد 15 عاماً، وأعتقد أنه بعد 20 عاماً لن يجد القارئ جاذباً يجذبه نحو الترجمة القديمة.


كيف تنظرين إلى الترجمة في هذا العصر: عصر العنصرية والشعبوية وعدم تقبل المختلف؟ بينما الترجمة في جوهرها هي بناء جسور بين الثقافات، وبالتالي هي نشاط مكثف ضد الحرب؟
- بدون الترجمة لا يكون هناك أدب إنساني أو عالمي. أتفق معك في ما تقول وأضيف: إن الترجمة إبداع ثانٍ على إبداع أول. وهي تفتح أفقاً للشعوب والثقافات كيما تتلاقح وتتعلم. نقطة أخرى: المترجم هو مؤلف، يعيد النظر في النص الأصلي. ثمة كتاب مرموقون غير موافقين على هذه الفكرة، بيد أني شخصياً أرى أن المترجم هو مبدع يعيد، وفي كثير من الأحيان يُحسّن من مستوى الأصل. الشيء الوحيد الذي لا يستطيع المترجم تبديله هو موضوع النص، لكن الترجمة تظل إبداعاً في نهاية التحليل.


بطاقة
تعمل كارما أريناس أستاذة للأدب الكتالاني في أكثر من جامعة، إضافة إلى كونها محرّرة وناقدة أدبية ومترجمة وناشرة، وقد شغلت سابقاً منصب رئيسة "نادي القلم" في برشلونة. أصدرت أريناس إلى اليوم قرابة الأربعين كتاباً معظمها في مجالي النقد والترجمة، خصوصاً عن الإيطالية حيث نقلت منها أعمالا كلاسيكية ومعاصرة (في الصورة غلاف ترجمتها لرواية "ضمير السيّد زينو" لـ إيتالو سفيفو.

المساهمون