تبدأ بحاملة المفاتيح أو محفظة جلديّة، وتمر بأجهزة التلفاز والحواسيب المحمولة وقطع غيار السيّارات، وتصل حتى إلى القطط والكلاب والعصافير. البضائع والحيوانات كلها مسروقة، وتجدها معروضة للبيع في الزوايا والأزقّة في مختلف أنحاء العاصمة التونسية. واليوم صار من المألوف في تونس أن يلجأ من تعرّض إلى السرقة لزيارة تلك الأسواق لإعادة شراء ما سرق منه. أما إن اخترت أن تقصد مركز الشرطة، فعليك أن تنتظر طويلاً حتّى يأتيك جواب غالباً ما يكون: "عوضك على اللهّ".
سوق "العصر"
تكثر أسواق الحرامية في الأحياء الشعبيّة والمكتظّة من العاصمة، على غرار باب الخضراء وباب الفلّة، حيث يسمّى السوق هناك بسوق "العصر"، حيث تتوزع البضاعة على الأرصفة. أما الأسعار، فهي لا تقبل المنافسة، فما يعرض هناك يصل سعره إلى نصف التسعيرة المحددة في المحلاّت، وإن كان الزبون مفاوضاً جيّداً فقد يقتني حاجته بسعر رمزيّ.
يقول العم محسن، وهو أحد السكان القدامى الذّي ولد وترعرع في باب الفلّة، إن تسمية "سوق العصر" المخصّص لبيع المسروقات، أتت من توقيت هذه السوق الغريب الذّي ظهر في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث تبدأ البضائع بالتوافد بعد صلاة العصر لتبقى حتّى ساعة متأخّرة من المساء. أمّا أغلب الباعة فهم ليسوا من أبناء المنطقة، ولكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب منهم أو نهيهم عن عرض بضائعهم على أرصفة طرقات الحيّ خوفاً من بطشهم وكثرة أعدادهم.
في السوق، يعمل الشاب صابر بخفّة. هو لم يتجاوز الخمسة وعشرين ربيعاً، ويقول لـ"العربي الجديد" إن أيّاً من الباعة المنتشرين في الأسواق هم من اللصوص أو أصحاب البضاعة الحقيقيّين، حيث يلعب كلّ هؤلاء دور الوكلاء مقابل جزء من الأرباح. أما عن كيفيّة الحصول على السلع والبضائع، فهي في عهدة كبار التجار في السوق المسؤولين عن الاتصال وتوزيع المسروقات على الباعة الصغار وتحصيل الإيرادات في نهاية اليوم.
أما بالنسبة للشرطة، فلا يخفي صابر اطمئنانه ولامبالاته بالتتبّع الأمني لنشاطاته. حيث يؤكد أنّ قوّات الأمن قلّما تدخل إلى تلك الأحياء والأزقة الضيّقة، عدا هذا فهم يحتاطون عبر بثّ عيون تخبرهم عن مجيء قوّات الأمن قبل وصولها إلى السوق، كي يجدوا الوقت اللازم لجمع البضاعة وإخفائها في الوقت المناسب في منازل ومحال قريبة.
فقر المواطنين ينعش أسواق الحرامية
تشبه هذه الأسواق العالم السريّ الذّي يستعصي على الدولة محاصرته والحدّ من ازدهاره وتناميه، وهو ما يؤكده الخبير الاقتصادي محمد ياسين السوسي الذي يعترف بعجز معظم المتخصصّين عن حصر حجم نشاط هذه الأسواق وإيراداتها، "ولكن العين المجرّدة تكفي لتعكس حجم نموّ هذه النشاطات".
ويستطرد السوسي قائلاً إن "تواصل نشاطات هؤلاء الباعة وتهافت المواطنين على تلك الأسواق يرجع بالأساس إلى التدهور الاقتصادي وتراجع المقدرة الشرائيّة للمواطن التونسيّ، ممّا يدفعه قسراً إلى التوجّه لأسواق الحراميّة، رغم علمه في أحيان كثيرة أنّ ما قد يقتنيه قد يعود لقريبه أو جاره أو ربّما قد سُرق منه هو ذات يوم".
ويتابع أن "نموّ هذه النشاطات يرجع كذلك إلى ارتفاع حالات السرقة والجريمة المنظّمة في البلاد، حيث تشهد العاصمة لوحدها شهرياً ما لا يقلّ عن 12 ألف حالة نهب وسرقة، وفق بيانات وزارة الداخليّة، في حين لا تتجاوز حالات التوقيف بضع مئات، وهو ما يشجّع الخارجين على القانون على التمادي في ترويع وسرقة المواطنين. هذا دون أن ننسى ارتفاع معدّلات البطالة بشكل مرعب حيث تتجاوز في بعض المناطق نسبة 30%".
إقرأ أيضا: ملف الملحق: أسواق الحرامية في الدول العربية