قرار ترامب: نهج أميركي جديد أم تسديد ديون للحلفاء؟

08 ديسمبر 2017
لم يخفِ ترامب وجود طابع استفزازي لقراره (Getty)
+ الخط -
"عندما تسلمت السلطة (في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي) وعدت بأن أنظر للتحديات التي يواجهها العالم بعيون مفتوحة، وبتفكير مرن. نحن لا نستطيع حل مشاكلنا بتقديم ذات الفرضيات الفاشلة، وتكرار الاستراتيجيات القديمة. جميع التحديات تتطلب اتباع نهج جديد. قراري اليوم يمثل بداية لنهج جديد تجاه الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين"، بهذه العبارات اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساء يوم الأربعاء إبلاغ العالم عن قراره إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، محاولاً وضع خطوته في سياق بداية لنهج جديد تجاه الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، ومن دون أن ينسى "تأكيد التزامه بالسعي للتوصل إلى اتفاق سلام دائم".

صحيح أن ترامب بإعلانه القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة يكون قد نفّذ أحد أبرز وعوده الانتخابية، لكن قراره يطرح تساؤلات عن الخطوة التالية للبيت الأبيض، خصوصاً بعدما ظهر أن ترامب معزول على الساحة الدولية، بفعل خطوته التي تضع مفاوضات السلام في مهب الريح وتؤجج الأوضاع في الشرق الأوسط، وبدا أن الإدارة الأميركية مدركة لحجم المخاطر التي تترتب عليه، مع توجيه تحذيرات لرعاياها ووقف عمل بعض سفاراتها في منطقة الشرق الأوسط.

لهذا السبب انقسمت الآراء في تفسير أسباب خطوة ترامب والمكاسب التي حققتها لصالح الولايات المتحدة، خصوصاً أنها أسقطت سياسة تاريخية أميركية كانت تقضي بتأجيل البت بملف القدس حتى الحل النهائي للصراع. وفي قراءة الدوافع وراء القرار، الذي اعتُبر بمثابة تحدٍ للسياسة الخارجية الاعتيادية أكثر من قراءة سياسية للوضع القائم.

فهل كان ترامب يعي فعلاً تداعيات قراره هذا؟ وفق صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، إذ إن العديد من المستشارين الأميركيين اعتبروا أن ترامب لا يبدو أن لديه فهما كاملا للقضية (الفلسطينية الإسرائيلية)، وبدلاً من ذلك يركز على أن "يبدو مؤيداً لإسرائيل"، على حد تعبير أحدهم، و"التوصل إلى اتفاق"، وفق آخر. وأضاف مسؤول أميركي كبير، لم تكشف الصحيفة هويته، أن قرار إعلان القدس عاصمة لإسرائيل "لم يكن مدفوعاً بعملية السلام"، بل جاء وفق وعد قدّمه خلال حملته الانتخابية.

هذا التفسير يفتح المجال أمام تساؤلات أخرى، فلماذا قدّم ترامب هذا الاعتراف "مجاناً" ومن دون استخدامه حتى "كرافعة لدفع آفاق صفقة إسرائيلية فلسطينية؟"، كما تساءل الكاتب والصحافي توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز".
وأشار فريدمان إلى أنه كان بإمكان الرئيس الأميركي أن يبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه يوافق على إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، مقابل صفقة بوقف كل المستوطنات في الضفة الغربية، أو كان بإمكانه أن يقترح بدء عملية نقل السفارة الأميركية إلى القدس الغربية وفي الوقت نفسه يعلن نيته إصدار إعلان موازٍ بعزمه إقامة سفارة لدولة فلسطين في القدس الشرقية ضمن اتفاق نهائي، معتبراً أنه في هاتين الحالتين، كان يمكن لترامب أن يتفاخر بعد ذلك أمام الإسرائيليين والفلسطينيين بأنهم حصلوا على شيء لم يفعله سلفه باراك أوباما أبداً، وهو أمر يدفع عملية السلام إلى الأمام ويبرز مصداقية الولايات المتحدة ولا يُحرج حلفاءها العرب.

وفي قراءة فريدمان لسبب عدم إقدام ترامب على أي من هاتين الخطوتين، قال "إنه أحمق، ويعتقد أن العالم بدأ في اليوم الذي انتُخب فيه (رئيساً)، ولذلك فهو يعبث بسهولة". وبحسب الكاتب الأميركي، فإن ترامب "يُقدّم هذه الهبات، ليس فقط لأنه جاهل، ولكن لأنه لا يرى نفسه رئيساً للولايات المتحدة، بل رئيساً لقاعدته (التي انتخبته)، وهو يشعر بالحاجة إلى الحفاظ على دعم قاعدته من خلال الوفاء بوعود خاطئة قدّمها خلال حملته"، معتبراً أنه "مرة جديدة، وضع واحداً آخر من تلك الوعود قبل المصلحة الوطنية للولايات المتحدة".


مقابل ذلك، بدا ترامب مدركاً لـ"وجود طابع استفزازي لقراره"، وهو ما يفسر دعوته إلى "الهدوء والاعتدال وإعلاء أصوات التسامح على أصوات الكراهية". ولكن كما في قرارات سابقة، سواء عبر الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ أو محاولة التنصل من الاتفاق النووي الإيراني، بدا أن الرئيس الأميركي يلعب دوراً مألوفاً: "المتمرد السياسي، وتحدي العقيدة السياسية الخارجية نيابة عن الناس الذين انتخبوه"، وفق قراءة لصحيفة "نيويورك تايمز". ونقلت الصحيفة عن كريستوفر رودي، وهو مسؤول تنفيذي في وسائل إعلام وصديق لترامب، قوله: "الناس يستيقظون من حقيقة أن الرئيس لا يرى الرمادي"، مضيفاً: "ترامب فخور جداً بأنه حقق الكثير من وعود الحملة، وقرار السفارة هو من الدرجة الأولى من الوعود".

في مقالتها تحت عنوان "قرار ترامب سياسي، لا دبلوماسي"، شرحت الصحيفة الأميركية العوامل التي دفعت الرئيس الأميركي لاتخاذ قراره هذا. وتحدثت "نيويورك تايمز" عن عاملين أساسيين، هما الملياردير اليهودي الأميركي، شيلدون أديلسون، وممثلو جماعات مسيحية إنجيلية مؤيدة لترامب.
وأوضحت أن وضع القدس كان دائماً بالنسبة لترامب ضرورة سياسية أكثر من معضلة دبلوماسية. وفي مواجهة مؤيديه من الإنجيليين وداعمي إسرائيل مثل أديلسون، أو الحلفاء المثيرين للقلق والزعماء العرب، وقف الرئيس مع مؤيديه الرئيسيين. وبخطوته هذه، حصل ترامب على "ازدراء" القادة الأجانب الذين قالوا إن هذه الخطوة كانت متهورة ومهزومة. كما عمل ضد نصيحة وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيم ماتيس، اللذين كانا قلقين من رد فعل معادٍ للولايات المتحدة، خصوصاً تجاه الدبلوماسيين والقوات الأميركية التي تخدم في الخارج، وفق "نيويورك تايمز".

وتطرقت الصحيفة إلى علاقة أديلسون بالرئيس الأميركي، مشيرة إلى أن الأول عقد اجتماعاً مع ترامب قبل عشرة أيام من توليه الرئاسة، وبعدها أبلغ مقربين منه أن الرئيس العتيد أبلغه بأن نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس سيكون أولوية رئيسية له.
وكان ترامب في بداية حملته للحصول على دعم الحزب الجمهوري لترشحه، قد سعى لعقد اجتماع مع أديلسون وطلب الدعم المالي منه. وفي مارس /آذار 2016، سعى ترامب إلى تقديم أوراق اعتماده كصديق لإسرائيل، وقال للجنة الشؤون العامة الإسرائيلية-الأميركية، وهي أقوى مجموعة مؤيدة لإسرائيل، "سننقل السفارة الأميركية إلى العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، القدس". حينها تم إقناع أديلسون وتبرع بمبلغ 20 مليون دولار إلى لجنة العمل السياسي التي دعمت حملة ترامب، و1.5 مليون دولار أخرى للجنة التي نظّمت مؤتمر الحزب الجمهوري. ومنذ تولي ترامب منصبه، تواصل معه أديلسون بانتظام.

وكشفت الصحيفة أنه حين وقّع ترامب في يونيو/حزيران الماضي قرار تأجيل نقل السفارة إلى القدس، استمع إلى صهره كوشنير، الذي حذره حينها من أن نقل السفارة قد يخنق جهود السلام قبل أن تقيم الإدارة الأميركية علاقات في المنطقة. حينها شعر أديلسون وغيره من المؤيدين لإسرائيل بالإحباط الشديد، وضغط على ترامب بشأن هذه المسألة في عشاء خاص في أكتوبر/تشرين الأول في البيت الأبيض.

وعندما انتهت فترة الستة أشهر للقرار هذا الشهر، كان ترامب عازماً على ترك المزيد من الخيارات أمامه. وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عقد اجتماعاً مع مديري مجلس الأمن القومي. وكانت رسالة الرئيس الأميركي، وفقاً للمسؤولين، هي أنه يريد المزيد من "الحلول الإبداعية". وقدّم مستشارو ترامب له بديلين: التوقيع على تأجيل نقل السفارة مرة أخرى، أو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ووضع خطة لنقل السفارة. وناقش ترامب هذا القرار لعدة أيام مع عدد من المسؤولين، وفقاً لـ"نيويورك تايمز"، قبل أن يعلن قراره الأربعاء، الذي حظي بتأييد صهره ومستشاره جاريد كوشنير والمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط جيسون غرينبلات، اللذين خلصا إلى أن "هز" الوضع الراهن يمكن أن يساعد فعلاً بدلاً من الإضرار بجهود السلام. وبالنسبة لترامب، فإن الفوائد السياسية تفوق بوضوح التكاليف، بحسب الصحيفة الأميركية.
 وفي هذا الصدد، أجمعت صحف أميركية على التحذير من خطورة قرار ترامب، ووصفته بالمجازفة الكبيرة.

وقالت صحيفة "واشنطن بوست" في افتتاحيتها إن الرؤساء الأميركيين السابقين بيل كلينتون وجورج بوش وباراك أوباما كانت لديهم أسباب وجيهة لعدم القيام بهذه الخطوة، فهم أدركوا أنها قد تتسبّب في تقويض السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وفي تبديد آمال الأميركيين في التوسط لتسوية إسرائيلية فلسطينية، بل وفي اندلاع أعمال عنف قد تستهدف الأميركيين أنفسهم. وأضافت أن ترامب يراهن على أن الرؤساء الأميركيين السابقين كانوا مخطئين، لكن خطوته تجاه القدس تعد مجازفة كبيرة. وحذرت من احتمالات اندلاع العنف في القدس أو أي مكان آخر في الشرق الأوسط، قد يستغله المتطرفون.
من جهتها، أشارت صحيفة "واشنطن تايمز" إلى أن ترامب ضرب عرض الحائط بكل التحذيرات الصادرة عن القادة. ونسبت إلى عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي، ونائب رئيس لجنة الاستخبارات في المجلس، مارك وورنر، القول إن قرار ترامب يأتي في وقت خاطئ ويشعل المنطقة من دون داعٍ.