تساهم الأنباء والأحداث المتعاقبة والمرتبطة بالقضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة، في تسليط الضوء على أولويات الفعل أو الرد الفلسطيني، خصوصا في أعقاب الإعلان الأميركي عن صفقة القرن؛ ومن ثم الإعلان الصهيوني عن مخطط الضم، وانتهاء بالإعلان الإماراتي عن تطبيع العلاقات مع الدولة الصهيونية. إذ يعتبر كل منها بمثابة صفعة مدوية لحل الدولتين، وتهديد حقيقي للحق والقضية الفلسطينية، لذا كان من الطبيعي تنامي الحديث والنقاش المرتبط بالخطوات الفلسطينية المطلوبة، من المطالبة بتغيير جذري على مستوى البرنامج النضالي والهيكلية التنظيمية والآليات التمثيلية، وصولاً إلى الحديث عن أولويات النضال الفلسطيني دوليا وعربيا ومحليا. لكن سوف أكتفي هنا بالحديث عن أولويات النضال الفلسطيني على الصعيد الدولي، مع التأكيد على قناعتي بأولوية البناء الداخلي الفلسطيني تنظيميا واستراتيجيا وتمثيليا الآن، والذي عرضته في مقالات سابقة.
يحتاج النضال الفلسطيني على الصعيد الخارجي إلى قوة دعم ملموسة تؤازر قوة خطاب الحق الفلسطيني الموثق تاريخيا
وينعكس ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني تلقائيا على الخطاب الفلسطيني الخارجي، وبالتالي على حيثيات ومضمون وطبيعة النضال الخارجي. لكن وعلى فرض إتمام هذه المرحلة الداخلية، عبر استعادة وحدة مكونات القضية الفلسطينية المتمثلة بالأرض والشعب والقضية، يصبح من الممكن البحث في أولويات النضال الخارجي، قانونيا، أمميا، أم شعبيا، دون إغفال قدرة وحاجة الفلسطينيين وقضيتهم لاقتحام هذه الساحات النضالية بشكل متزامن. مع الأخذ بعين الاعتبار أن نتائج النضالين الأممي وبشكل أقل القانوني محكومة بشكل أو بآخر بتوازنات القوى الدولية، وبالتحديد بطبيعة المصالح الدولية، التي تمثل الدولة الصهيونية عنصرا محوريا فيها، لا سيما بما يخص مصالح الأطراف المسيطرة دوليا، من الولايات المتحدة الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي مروراً بالصين وروسيا الاتحادية، وهو ما يشكل عائقا كبيرا أمام تحقيق انتصارات فلسطينية واضحة وكبيرة.
إذاً يحتاج النضال الفلسطيني على الصعيد الخارجي إلى قوة دعم ملموسة تؤازر قوة خطاب الحق الفلسطيني الموثق تاريخيا، وتوازي قوة الأطراف الدولية الداعمة للصهيونية، وهو ما يحيلنا إلى أهمية العمل على استعادة زخم الدعم الشعبي العالمي، ولاسيما دعم الحركات والقوى التحررية والإنسانية العالمية، التي خسرنا غالبيتها في أعقاب التخلي الفلسطيني عن الرواية الرئيسية المحقة، لصالح التوقيع على اتفاقيات سلام؛ استسلام؛ مع الدولة الصهيونية، مجحفة بحقوقنا التاريخية. حيث تتعارض مصالح القوى المهيمنة عالميا جذريا مع حقوق الشعوب، ولا سيما شعوب العالم الثالث الخاضع لهيمنتهم ونهبهم واستغلالهم بشتى الطرق الممكنة. وعليه فلا طائل من إهدار الوقت والجهد في محاولات إقناع قادة الدول الكبرى بعدالة قضيتنا، فهي مجرد تفصيل ثانوي في معادلة التوازنات الدولية. في حين يمكن الضغط على قادة هذه الدول ومنظومتها الحاكمة عبر الحركات الشعبية الداخلية المناصرة لقضيتنا العادلة، بشكل يشابه نضال ونشاط الـ BDS.
تناضل غالبية الحركات الشعبية العالمية من أجل عالم تسوده قيم العدالة والحرية والمساواة
وكذلك علينا الإضاءة على بعد مهم في هذا الشأن، نستمده من طبيعة وقاعدة الحركات التحررية، ذات الأساس الشعبي، فجميع حركات التحرر العالمية والعربية والفلسطينية ضمنا، تنطلق من تعبئة الفئات الشعبية وتنظيم نضالاتها بما يخدم الأهداف والبرامج المتفق عليها. وبالتالي فهي حركات شعبية أولاً وأخيراً، لذا فإن علاقتها الصلبة والمتينة الأساسية تبنى مع أطراف تعبر عن ذات المضمون والأساس، أي هي العلاقة مع القوى الشعبية المناضلة من أجل قيم التحرر والإنسانية والعدالة العالمية منها أم الذاتية. طبعا لا نعني التقليل من أهمية العلاقات الدولية الرسمية لاسيما على صعيد الدعم اللوجستي والمالي وأحيانا الدعم في المحافل الدولية، إلا أنها ذات طبيعة متذبذبة وغير مستقرة، سواء بما يخص مدى متانتها أو حتى توجهها، فهي تخضع دائما لتأثير توازن القوة على الصعيد الدولي من ناحية، ولتوازنات المصالح الدولية من ناحية أخرى. وهو ما عانت منه حركة التحرر الفلسطينية تاريخيا وحاضراً من تبدل في مصالح ورؤى بعض الحكومات، وبالتالي في أولوية علاقاتها وتوجهاتها الدولية، ومنها توجهاتها تجاه قضيتنا العادلة.
بينما تناضل غالبية الحركات الشعبية العالمية من أجل عالم تسوده قيم العدالة والحرية والمساواة، كالنضال ضد نظام الفصل العنصري الجنوب إفريقي، ونضال السود في أميركا، والنضال ضد التوجهات العنصرية والاستغلالية في دول الاتحاد الأوروبي، ونضال الشعوب الساعية لامتلاك حريتها أينما كانت ومنها نضالنا الفلسطيني، فجميعها ذات جذر واحد وقاعدة أخلاقية وسياسية واحدة، وذات أهداف متشابهة وربما متطابقة، تتلخص في النضال من أجل هدم صرح الاستبداد والاستعمار والاستغلال والعنصرية أينما كان. كما تكتشف هذه الحركات في خضم ممارستها النضالية مدى تحالف وتعاضد القوى المعادية للإنسانية والعدالة والحرية على المستوى العالمي. مما يفرض عليها تحالفا شعبيا ذا مضمون إنساني عالمي يشكل نقيضاً كاملا لتحالف الحكومات، وعلينا بلا شك أن نصبح جزءا عضويا ومحوريا منه، إن أردنا تحقيق اختراقات نوعية في الدوائر الأممية والدولية، وفي البعد القانوني، وحتما ميدانيا داخل فلسطين، فهذه الحركات والتحركات العربية والعالمية نصير نضالنا الحقيقي والوحيد، وهي نصير قوي وثابت وحاسم أيضا.