فُرصة العمر

28 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونيه (Getty)
+ الخط -
أجرت شقتي مفروشةً لرجل غريب اسمه "مالك"، استهجن سؤالي عن أوراقه الثبوتية عند توقيع عقد الإيجار وقال وهو يعطيني رزمة سميكة من النقود :
- اطمئن، أنا لا أغادر بيتاً سكنته أبداً.

الشقة عبارة عن غرفة واحدة وصالة مستطيلة الشكل فوق سطح البيت الذي ورثته عن أمي، وأمامها شرفة مفتوحة واسعة تطل على جبال عمّان الشرقية، عندما رآها الرجل انفرجت أساريره وقال :
- هذا ما أبحث عنه، أفق مفتوح. ثم سرّح بصره في أرجاء المدينة وأضاف :
- كم أكره الآفاق المغلقة!

فوح التبغ المنبعث من النارجيلة وقرقرتها الصاخبة المتسللة إلى أنفي وأذنيّ، تذكرني بالسهرات السعيدة التي انقضت من عمري فوق تلك الشرفة، وها هو الرجل يعيش حياتي التي خلّفتها ورائي، وأغلب الظن أنه يستخدم الآن الكأس نفسها التي طالما شربتها صحبة صديقاتي الجميلات.
أستيقظُ فجراً فيختلط صوت الأذان بصوت "بوب مارلي" مغنياً "نو وومن نو كراي" فتسحرني الموسيقى المسترخية في هدأة الفجر، ثم يتملكني الغضب فأقف على سجادة الصلاة وأنا أرتجف والدموع تتساقط على قدميّ.

استوقفتني شابة تقف خلف طاولة صغيرة في مدخل المول، ومدت إلي يدها بمنشور دعائي يحمل صورة لأسرة نموذجية تقفز بمرح فوق بساط أخضر، وقالت لي بأدب مصطنع :
- ادفع عشرة دنانير واحصل على فرصة العمر و....

شتمتها ومضيت قبل أن تكمل عرضها، وهو سلوك عصبي صار يلازمني منذ تركت شقة "الروف"، وعندما رأيت العمال يصعدون الدرج حاملين حزماً طويلة من أعواد القصب جن جنوني، فقابلني مالك بابتسامة هادئة وقال :
- أريد أن أظلل الشرفة على حسابي الخاص، وهي ديكورات خفيفة تحفظ الخصوصية وتمنع الإحراج.
أُصغي إلى دبيب الأرجل القادم عبر السقف، أربع أرجل، وأحياناً ست، ومرات ثمانٍ، بعضها رشيق وسريع، وبعضها لعين وثقيل. تبدأ كَرّها وفَرّها بوقع حاد كحوافر الجياد، ثم تتحول إلى خبب عريض كعدو الجمال، وبعد أشواط عديدة ينتهي الطّراد بسقوط مدوّ يعقبه زحف وجرّ وصراخ وضحك مكتوم وتأوّهات متقطّعة.

أنزلت الساعة الكبيرة عن الحائط ومسحت الغبار الرطب عن إطارها النحاسي الثقيل، عقاربها طويلة مسننة عدوانية، تكاد، لولا سمك الإطار، أن تثقب الساعات الاثنتي عشرة وتمتد خارجها. ماتت أمي من دون أن تسأل عن الوقت، وخلال الانطفاء التدريجي لنور عينيها ظلّت قادرة على رؤية الساعة المعلقة أمامها، وآخر شيء رأته من كنبتها المهترئة هو تلك الرماح الثلاثة الممتدة إلى زمن لا نهاية له. قلبتُ الساعة على وجهها فوق الطربيزة ونزعتُ غطاءها الخلفي، وفي الحجرة المخصصة للبطارية وجدت صورة بالأبيض والأسود ملفوفة على شكل إسطوانة، لشابة تشبه ليلى مراد في تسريحة شعرها المموّجة باللفّافات، وعينيها العسليتين الضاحكتين. وعلى ظهر الصورة عبارة باهتة مكتوبة بخط دقيق "حبيبي اسماعيل، أهديك رسمي للذكرى؛ فالذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان".

أجلس في كنبة أمي وأحدق في الحائط، لا أرى الساعة، ولكن أرى إطارها بحدوده المتعرجة على شكل نسر مائل الرأس ومنقبض الجناحين، يحدجني بنظرته القاسية، ثم يفتح منقاره المعقوف ويفرد جناحيه على اتساع الحائط وينقض عليّ، ويقف على مسند الكنبة فوق رأسي، ويبدأ بنقر نافوخي، فأصحو مفزوعاً وأنا أتحسس رأسي. أسمع صوت صباح فخري يغني "عيشة لا حبّ فيها، جدول لا ماء فيه". الصوت يخترق أذنيّ مثل رمح طائش أصاب ناقوساً مدفوناً في الرمال، وأشم رائحة شواء يسيل لها لعابي. أفزّ من مكاني وأجري نحو درج البيت وأصعده وثباً إلى شقة "الروف". أجتاز الباب المفتوح فأجد كل شيء كما تركته؛ الإضاءة الخافتة والموسيقى الهادئة وكؤوسي والأفق المفتوح ومقعدي الأثير وشوائي ينضج على جمر بديع، ولا أثر لمالك إلا تعريشة القصب.

دلالات
المساهمون