إمكان تحول الانتفاضة الفلسطينية إلى حدث مؤسِّس يعيد تصويب العلاقة بين الوعي الوطني والحركة الفلسطينية والإرادة التاريخية خاصة أنها طاولت الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة بنسب متفاوتة الأثر، يفسّر كثافة حضور الجدل الخطابي حولها بغية التملك النظري للانتفاضة؛ وتحويلها من حدث إلى فكرة تتمثل الحدث وهي عملية تتخللها آليات الاستبعاد والتثبيت.
لقد توسع نطاق المعركة ليشمل المجال الافتراضي إذ تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات للمحاججة بخصوص المضمون الأخلاقي للنضال الفلسطيني إلى جانب مسألة العنف واللاعنف أبرز عناوين المحاججة عبر صفحات "الفيسبوك".
أثير النقاش حول الدور الأخلاقي للمناضل الفلسطيني في سياق مشهد قتل الفلسطيني المستوطنين الصهاينة، وحول حدود المشروعية الأخلاقية لهذا الفعل في إطار استقطاب ثنائي من داخل أنظمة معرفية متباينة.
اللافت في هذا النقاش، وبينما يجري عن كثب ربط الأخلاق بالمقاومة الفلسطينية لتقييم الأخيرة من زاوية الحكم الخُلقي في أبعاده الإيجابية والسلبية بوصفه إطاراً معيارياً يؤطر الممارسة الفلسطينية، تستند الصهيونية إلى نموذج إرشادي عقلاني حداثي أصولي صلب يفصل بين النصاب الأخلاقي بما هو يتحدد بالتمييز بين الخير والشر وكحقل له قواعد اشتغال خاصة لا يمتد إلى غيره، والنصاب السياسي بما هو تمييز بين العدو والصديق وكذلك له مجاله الخاص وقواعد تفصله عن غيره من المجالات الاجتماعية. وهو نموذج إرشادي امتلك فعالية التحقق الصهيوني باعتبارها فعالية أسست لشكل مقارعتها.
ثمة من المدونين العرب من اتخذ موقف البرود الأخلاقي تجاه مشهد القتل المتبادل ولسان حالهم يقول: نعم نتعاطف مع الفلسطينيين من منطلق إنساني فقط لا من منطلق الرابطة القومية، فهذا شأن فلسطيني خاص لا شأن لنا به؛ فنحن خارج الحساسية الفلسطينية نتموضع في الخارج، فالاضطهاد حالة انفعالية موصولة بهذه التجربة الوجودية الخاصة تمس أصحابها وليس كمثل من يسمع عنها؛ فهي تجربة تولد شروطها النفسية والمادية التي لا معنى لها سوى لأصحابها المباشرين.
يمكن القول بحذر إن موقف البرود الأخلاقي هذا هو موقف بعض الشباب العربي من أبناء الشريحة العليا من الطبقة الوسطى الفخورة بما حققته من مكتسبات.
إقحام التنظير الأخلاقي
على أي حال فإن إقحام التنظير الأخلاقي في مشاكل النضال الفلسطيني، يجد تفسيره في ذهنية كامب ديفيد ووادي عربة وثقافة أوسلو من ناحية، وصعود الخطاب الحقوقي منذ بداية التسعينيات الذي يتحدث طوال الوقت عن أنسنة النضال وحشره في بعد أحادي قانوني من جهة أخرى.
منذ أن تحول الصراع من صراع بين حركة استعمارية استيطانية عنصرية وحركة قومية عربية تحررية، شكل هذا التحول المقدمة التاريخية لصعود الخطاب الأخلاقي والذي تجسد عملياً في كامب ديفيد، وتحويل إسرائيل من حركة استعمارية استيطانية إلى حركة قومية دشنت دولة بما يطمس جوهر الحركة الصهيونية المتعالي والعنصري والاستعماري. هكذا يجري تحويل الصراع إلى الساحتين الدبلوماسية والقانونية على قاعدة أخلاقية بهدف تحرير الأراضي المحتلة عام 1967 فقط.
وهو خطاب يبتعد عن مفاهيم التحرر الوطني ويستند إلى الواقعة والعملية والعقلانية وأصحاب الأهداف القابلة للتحقيق بينما أي خطاب آخر غير واقعي وغير ممكن وأيديولوجي حالم رومانسي. وعند تحرير تلك المفردات من منظور ممارسة النخبة الرسمية المؤمنة بالمصالحة مع إسرائيل باعتبارها الخيار الرشيد كما استبانت التجربة، يصبح مدلولها ما تقبله إسرائيل في نهاية المطاف.
وينسى هؤلاء أن موازين القوة المادية هي دائماً في صالح المستعمِر وإلا لما كان هناك استعمار أصلاً، بينما الإرادة هي العامل الحاسم في سياق استعماري، ويكفي هنا الإشارة إلى أن بارودة الصيد غيرت موازين القوى في السياق الاستعماري الجزائري لصالح المستعمَرين.
والمعنى ارتضاء سيادة منقوصة مادياً ورمزياً والاتكاء على الاستعطاف الأخلاقي كاستراتيجية أحادية ممكنة فتموضع القوة خارج حقل المستعمَر بحثاً عن مقاومة مقبولة دولياً.
عامل آخر يفسر صعود الخطاب الأخلاقي يكمن مصدره في منطق الدولة القُطرية التحديثية ونجاحها النسبي في قوننة القومية العربية في إطار دولة قطرية أصبحت لاحقاً النطاق المركزي في تأطير الرؤية الكونية للمواطن العربي وتحديد دوره فيها وتحويله من عربي قومي إلى مواطن مطواع يحمل جنسية دولته فقط. لقد أصبحت الدولة العربية (القُطرية) تقنية من تقنيات ضبط الذات والتحكم في سكنات وحركات المواطن العربي بوضع قيود على الفعل ومراقبة النفس وإخضاعها عن طريق المداومة على طاعة الدولة وخلق رابطة التزام مباشرة معها.
على أي حال إن السؤال الأخلاقي يُحمّل الذات الفلسطينية مسؤولية لا متناهية باجتراح منطق الفلاسفة الأخلاقيين بشأن جعل مسؤولية الذات المضطهَدة من يقع عليها عبء تحرير المضطهِد الصهيوني من عنفه حتى لا تعيد الذات الفلسطينية إنتاج ماكنة القتل الصهيونية كي لا تصير صورة أخرى من الصهيونية. هذا ما ذهب إليه عديد من الفلاسفة ورواد نظرية ما بعد الاستعمار. يكتب إيمانويل ليفيناس "أن الأخلاقي في صدمة الاضطهاد يتمثل في النقلة من التعرض للانتهاك إلى المسؤولية عمن يمارس الاضطهاد، من المعاناة إلى التكفير عن الآخر".
وهي ذات الفكرة عند الفيلسوفة جوديث بتلر. بَيْدَ أن هذا الموقف الأخلاقي يتوجب ألا يكون حكماً مطلقاً، فالمعيار هو ما إذا كانت الأنا المُضطهَدة قادرة على تحويل الآخر المُضطهِد إلى أخلاقي، وبالقدر ذاته مدى استجابة الآخر واستعداده الذاتي ليتحول إلى أخلاقي (الصهيونية والنازية مثلاً). والمعنى هو تحرير الأنا المُضطهَدة الآخر المُضطهِد من وحشيته اللاأخلاقية وبالتالي "تعيده" إلى الأخلاقي، ومن جانب آخر تتحرر الأنا من إعادة إنتاج وحشية الآخر وعنفه اللاأخلاقي.
يمكن القول إن أصل مشهد المخاطبة الأخلاقية هو علاقة بين ذات وآخر قائمة على اعتراف متبادل يساهم كل منهما في تكوين الآخر وتنمية حس المسؤولية الأخلاقية المشترك. عبر بنية مشهد المخاطبة هذا ينطبق الحكم الخُلقي. فعندما تحكم جماعة على أخرى بالنفي كما حكمت الصهيونية على الفلسطيني وهتكت أنسجة بنياته المجتمعية، فهذا المشهد غير صالحٍ للحكم الخُلقي من المنظور الفلسطيني من حيث هو حكم مرتبط بالعناية وتكوين الأنا المتكلمة وتنمية استقلالها الذاتي، فالعلاقة الأخلاقية في جوهرها هي علاقة تعارف بين ذوات.
لأن الموقف يتعلق بمدى استحواذ المقاومة المؤطرة أخلاقياً- أي التي تحتكم إلى المبادئ الأخلاقية- على مبدأ الصلاحية العملية في مقاومة استعمار استيطاني ذي بنية قائمة على مبدأ إبادة جماعية للسكان الأصليين واستبدالهم بالمجتمع والنظام الاستيطاني الجديد، فالسؤال ما إذا كانت الحالة الأنطولوجية الفلسطينية - الصهيونية صالحة للاحتكام إلى الحكم الخُلقي. هي حالة يمكن توصيفها بـ" تعليق الحكم الأخلاقي" من جهة من يقع عليه عنف النفي طالما لم يَردّ مغتصب الحق الحقوق لأصحابها. باختصار للعلاقات الأخلاقية شروط ومحددات متى توافرت فإنها تندرج في إطار العلاقات الأخلاقية وإلا يُعلق الحكم الخُلقي.
بين غاندي وفانون
عنوان آخر تداوله نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي كان بخصوص المفاضلة بين أساليب المقاومة. انقسم الجدال بين موقفين كل طرف ينتصر لأسلوب معين. السمة الغالبة هي انتصار للروح الغاندية، أي لشكل المقاومة اللاعنفية وتحويلها إلى نموذج مثالي عابر للزمن لا يتأثر بالحيثيات التاريخية. يغيب عن هذا الجدال فرانز فانون باعتباره المشرع الأبرز والمدافع العنيد عن العنف بوصفه تقنية قتالية فعالة، وتقنية لمعالجة أمراض النفس لدى المستعمَرين.
المفارقة اللافتة أنه بينما يجري تعميم الروح الغاندية بالرغم من أنه ليس لغاندي مؤلفات ونظريات خاصة به، يجري تخصيص فرانز فانون وهو العالم والمنظر صاحب العديد من المؤلفات المعروفة. والمعنى أن هؤلاء يرون العنف في النص الفانوني جاء في سياق شديد الخصوصية لا يصلح سوى للسياق الأفريقي فقط، كتسليم اضطراري طبعاً، في غضون حرب التحرير الجزائرية تلك الفترة التي كتب فيها فانون، وبالتالي لا يكون، بحسب أولئك، بالضرورة صالحاً لكل الحالات.
هكذا يتحول اللاعنف الغاندي إلى مبدأ يحوز الصلاحية الكونية بوصفه نموذجاً للتحرير يصلح لكل حالات المقاومة، علماً أن رؤية غاندي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي قاصرة لا تحتمل تأسيس مشروع مقاومة كوني. ولئن قبلنا بابتذال وتبسيط شديدين نجاح اللاعنف في الهند، فليس من الضروري أن يمثل فعالية تحوز على صلاحية كونية.
مشكلة هذا النوع من المحاججة أنه ينتصر لأسلوب على حساب الآخر ويضع المقاومة العنفية واللاعنفية في تناقض ويستدخلهما في أتون اصطراع لا تحتمله الحالة الفلسطينية.
من منظور الفعالية، كلاهما له وظائف وحدود ولا يمكن التضحية بإحداهما. فالحراك الشعبي المنتفض يتكامل مع خلاياه المقاوِمة وتتحد الجهود باتجاهاتها المتعددة ومهما حاول بعضهم اصطناع وهم المفاضلة فإن الواقع الانتفاضي يحكي قصة أخرى على قاعدة التعاضد، فكل شكل يدعم الآخر ويكمله ولا يلغيه في إطار المشروع التحرري.
إذا كان اللاعنف بوصفه نضالاً أخلاقياً فعالية كونية، فمن الأخلاقي محاكمة من قاتل النظام النازي. وعليه من غير الممكن الدفاع عن قواعد عقلانية أخلاقية كلية متجاوزة السياقات المتباينة للمجتمعات. ما يهم هنا هو نقد السعي الدؤوب من أجل تثبيت مبدأ كلي قطعي الدلالة للمقاومة ما يجعل اللاعنف أكثر عنفاً من العنف حين يؤسس ذاته على شرعية إقصاء الأشكال الأخرى للمقاومات المتعددة الأشكال بطبيعتها.
في الختام، أمام مشروع صهيوني استعماري استيطاني عنصري لاأخلاقي فإن خيارات الفلسطيني: إما الهروب من الموت وإما مواجهته. وهذا هو درس الشهيد مهند الحلبي والذين ساروا على دربه.
(باحث فلسطيني/ غزة)