في مصر.. ادفع أكثر تتعلم أفضل!

29 أكتوبر 2015
على الطلبة أن يتعلموا جمع المال لأجل دراستهم (Getty)
+ الخط -
التعليم في مصر متهم بتكريس الطبقية وخلق مجموعات متباعدة اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، تعليم يعمّق التمييز بين الطلاب على أساس القدرة الاقتصادية كل بقدر ما يدفعه، فالذي يريد تعليماً جيداً لا يجد طريقاً سوى المدارس الخاصة.

وكلما زادت تكلفة هذه المدارس زادت معايير الجودة بما تقدمه من خدمات تعليمية ومبان مجهزة وتقنيات تكنولوجية، ومن لا يملك الدفع ليس أمامه إلا أن يكون مجرد رقم ضمن ثمانين تلميذاً في فصل غير مهيأ للدراسة، يخضع لمناهج تلقينية تقتل أي ميول إبداعية على أيدي مدرسين لا يتقاضون ما يكفي لسد الرمق.
ولا يقتصر الأمر على التعليم الأساسي فحسب، بل إن الجامعات الخاصة بما توفره من ميزة نوعية لفئة من المجتمع مقتدرة ماديا انتشرت هي الأخرى حتى وصل عددها في مصر إلى 20 جامعة في مقابل 22 جامعة أهلية. 

بهذا يعود التعليم إلى سابق عهده، ويسير بخطوات ثابتة نحو إلغاء المجانية واقتصاره على الطبقات الغنية دون الفقيرة، فبعدما ألغى الاحتلال الإنجليزي مجانية التعليم في مصر، لجأ الفقراء إلى "الكتاتيب"، واقتصر تعليم المدارس على أبناء الطبقات الاجتماعية الراقية حتى أقر دستور 1964 بمجانية التعليم وأحقية كل مواطن في التعليم.

ومع الزيادة السكانية التي لم يقابلها سوى توسع محدود في الأبنية التعليمية، بدأت مجانية التعليم تأخذ مسارا مختلفا وتتآكل شيئا فشيئا، وظهرت المدارس الخاصة كنوع من المشاريع الاستثمارية وكبديل لتكدس الفصول في التعليم الحكومي الذي ترهل عام بعد آخر.

سلعة التعليم
يؤكد عبد الحفيظ طايل، رئيس مركز الحق في التعليم، أن الدولة لا توفر فرصا متساوية للتعليم بين جميع المصريين، ويضيف: المعيار الأول من معايير الجودة التعليمية هو إتاحة التعليم نفسه للجميع، وألّا يتجاوز كثافة الفصل الواحد 30 تلميذا، ونحن في مصر نفتقد العنصرين معا، فالدولة في حاجة إلى بناء ما بين 25 ألف مدرسة و30 ألفاً قبل 2017 حتى يمكننا القول أن الدولة تتيح التعليم للمواطن وحتى نصل إلى معدل مقبول من كثافة الفصول.

اقرأ أيضا:هل يصبح التعليم المنزلي بديلاً لمشكلات المدارس؟

يتابع: اتجهت الدولة لتحويل التعليم إلى سلعة في أيدي القطاع الخاص لأنها لا تملك توفيره، وما توفره في الأبنية التعليمية الحكومية مجرد تعليم رديء ومناهج غبية تؤهل للعنف وامتحانات سيئة لا تقيس ذكاء التلميذ أو قدراته الحقيقية، حتى أن 30% من طلبة المدارس الحكومية يفتقدون مهارات القراءة والكتابة، والقطاع الخاص لا يراعي بالضرورة معايير الجودة.
فالمدارس الخاصة التي تقدم خدمات تعليمية جيدة ذات تكلفة عالية تقدر بعشرات الآلاف، أما تلك التي تبدأ مصروفاتها من أربعة آلاف وخمسة آلاف فتدخل ضمن التعليم الرديء وتقتصر على كونها مجرد مؤسسات استثمارية تحقق ربحا وفيرا.

ومن جانبه، يرى الخبير التربوي دكتور كمال مغيث، أن جودة التعليم ليست مرهونة بالدفع فقط بل مرهونة أيضا بإدارة التعليم داخل كل مؤسسة، فالمدارس الخاصة ذات المصروفات الباهظة تتميز بجودة التعليم نظرا لما بها من إدارات حديثة ومميزة تعرف معنى الجودة وتقدم مقررات دراسية أكثر تطورا وأكثر مواكبة لسوق العمل.

ويظهر أثر علاقة الجودة بالمبلغ المدفوع في الشرائح العليا من المصروفات بداية من مبلغ 50 ألفا مثلا، فلا يمكن أن نقارن بين جودة التعليم في هذه المدارس وأخرى تكلفتها بضعة آلاف.

ويقول الخبير التربوي: التعليم المجاني شجع كل أسرة على تعليم كافة أبنائها، ومع الارتفاع الجنوني في تكاليف المدارس اتجهت بعض الأسر للمفاضلة بين تعليم الإناث والذكور، ولأن كفة الذكور ما زالت راجحة في مجتمعاتنا، اهتمت بعض الأسر بتعليم الذكور تعليما جيدا عالي التكلفة دون الإناث، باعتبار الولد هو المسؤول عن الأسرة فيما بعد والبنت مصيرها للزواج، وهذا المبدأ – وفق الخبير التربوي ــ ينسف الإحساس بالعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع وبالتالي يوجد مزيدا من الغضب والسخط والتفكك الأسري.



التعليم الجامعي
رغم أن العديد من الدول المتقدمة مازالت تتبع مجانية التعليم، كاليابان وكندا وألمانيا وفنلندا التي تقدم التعليم المجاني حتى الدكتوراه، فإن التعليم الجامعي في مصر اتخذ منحى آخر، فإلى جانب ظهور الجامعات الخاصة منذ الثمانينيات، أعلن د.طارق شوقي رئيس المجلس التخصصي للتعليم والبحث العلمي التابع للرئاسة مؤخرا أن التعليم العالي منحة من الدولة وليس حقا، مؤكدا تطبيق نظام المنح بدءا من العام الدراسي الجديد، هذا النظام الذي سيتيح للطالب المتفوق التمتع بمجانية التعليم، وفي حال رسوبه يتحمل تكاليف السنة الدراسية كاملة، في حين يتقاسم التكلفة مع الجامعة حال حصوله على تقدير منخفض.

ولمزيد من العنصرية وتراجع العدالة الاجتماعية، أعلن وزير التعليم العالي، السيد عبدالخالق، تطبيق التوزيع الإقليمي على الطلاب الراغبين في الالتحاق بكليتي الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وحصر الالتحاق بهما في طلاب القاهرة الكبرى وإقليم القناة، رغم عدم تواجد مثيل لهما في الأقاليم.

اقرأ أيضا:الجامعات العربية والثورة التعليمية = صفر

الحال بعد التخرج ليس وردياً، فسوق العمل شبه مقصور على خريجي الجامعات الخاصة التي تعمل على احتياجات السوق ومتطلباته، ومع انضمام خريجي الجامعات الحكومية لطابور البطالة، لم يعد غريبا أن يخرج رئيس الحكومة ليدعو الشباب للعمل كـ "سواقين تكاتك" أو أن يطالب الجنرال السيسي خريجي الجامعات بالعمل على عربات نقل، وأن يحثهم وزير التعليم العالي بضرورة الحصول على دكتوراه في السباكة والحلاقة، وتتحدث أفواه اعلامية عن ضرورة إلغاء مجانية التعليم الجامعي.

سوق العمل
وفي هذا الإطار يقول طايل: ما يحدث في التعليم الجامعي استكمال لخصخصة التعليم بشكل كامل وإلغاء الطموح التعليمي لدى الفقراء، وعند الخروج لسوق العمل تكون الأفضلية لشريحة الأغنياء أصحاب التعليم باهظ التكلفة، في حين تعاني الشريحة الأخرى من قلة الفرص وتحظى فقط بما يعادل تقريبا ثلث الفرص المتوفرة لشريحة الأغنياء طبقا لمنظمة اليونسكو، مما يؤثر على مبدأ تكافؤ الفرص وغياب العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروات.

ويتفق معه دكتور مغيث مؤكدا أن مجانية التعليم كانت تحقق عنصرين اجتماعيين مهمين لمجتمع سليم ومعافى وصحي، العنصر الأول هو "المواطنة"، فكانت المجانية تجمع بين الغني والفقير، والمسلم والمسيحي، كل في فصل واحد ويخضع لمناهج دراسية وامتحانات واحدة، وعندما تدهور التعليم المجاني تم ضرب فكرة المواطنة، فمدارس الأغنياء هي مدارس حديثة، يسافرون في رحلات لدول أجنبية ويتعرفون إلى قيم وأفكار غربية، وعلى جانب آخر تتكدس فصول أبناء الفقراء و"يفكون الخط" بالكاد، وبالتالي أصبحنا شعبين وليس شعبا واحدا.

ويتابع: العنصر الآخر هو تكافؤ الفرص بما يحقق العدالة في المجتمع، فإذا ارتضينا بعامل التفوق الأكاديمي، فالمتفوق هو من سيحظى بوظيفة ممتازة بصرف النظر عن فقره أو ثرائه، لكن بوجود نوعين من التعليم، نوع ثري وآخر فقير، انتهى عامل تكافؤ الفرص وتضاءلت فرص العمل الجيدة أمام الطالب الفقير وأصبحت الأفضلية للحاصل على التعليم الخاص، وبالتالي زادت معدلات البطالة التي تساهم في مزيد من الانقسام المجتمعي وزيادة معدلات الجريمة.

اقرأ أيضا:لماذا فازت "نفهم" المصرية بوايز العالمية؟

المساهمون