طوى هذا القرن عبر أحد أهم اختراعاته على الصعيد الاجتماعي، أي وسائل التواصل الاجتماعي، الكثير من المعايير التي كانت تحكم العلاقات بين الأفراد المختلفين، ومن هذه العلاقات ثنائية "النجم - الجمهور" التي تلاشت كثنائية ذات طرفين، أي كخط عمودي احتل النجمُ المركزَ العلوي فيه، والجمهورُ القاعدةَ المتغيرة حسب مكانة النجم ولمعانه. ليحل محل الثنائية السابقة تشكيل أكثر تعقيدًا أصبح فيه كل فرد من الجمهور نجمًا في مستوى ما، وكل نجم فردًا في جمهور ما.
ورغم الاعتراضات والشكاوى العديدة التي تطلق من حين إلى آخر، من امتلاء الساحة الفكرية والفنية والنقدية بما هبّ ودبّ، إلا أن الخصوبة التي يتضمنها التشكيل الجديد والتي تنمو فيها وتخرج إلى العلن والضوء، مواهب كثيرة كانت ستُترك لتموت في عتمة التشكيل القديم، كافية لأن يقف المرء موقفًا إيجابيًا من الأمر، وأقصد هنا طواعية الشعور بإيجابية مثل هذا التغيير المهم لأن هناك جانبًا قسريًا يتعلق بالزمن وتطوّراته لا يفيد معه الحنين إلى جماليات مضت.
وهكذا امتلأ العالم الافتراضي بالشعراء والروائيين والفنانين، ومنهم من كان حضوره افتراضيًا فقط ومنهم من جمع بين الواقعي والافتراضي، بينما خَفَتَ حضور أغلب من بقوا خارج الافتراضي في سوق التداول الثقافي. ترافق ذلك مع تراجعٍ للقارئ بالمعنى المتعارف عليه ليحلّ محله قارئ جديد، سريع، متعجل، يريد صورًا ترافق جملًا قصيرة واضحة، شعرًا سهلًا، روايات مشوقة انفعالية، وقصصًا تنقل الواقع الذي يراه في نشرات الأخبار، أو الذي يريد أن يراه في حياته اليومية.
بين ما يُعرض وما يريد المرء أن يرى من جهةٍ، وبين ما يحدث فعلًا من جهة أخرى، هوّة كبيرة، فالواقع معقد ومتشابك على عكس ما يتم تبسيطه وعرضه على أنه الواقع الحقيقي. بالطبع لم يختف القارئ القديم، فهو ما زال موجودًا إنما لا بد له من أجل يكون ما هو عليه أن يقيم في العتمة، أي خارج الواقع الافتراضي، جزئيًا على الأقل.
لا يتضمن عرض السلبيات السابق حنينًا إلى الماضي، بل دعوة إلى التفكر في إمكانية إيجاد مكان وسط يستطيع فيه القارئ القديم، وأقصد به هنا قارئ كتبٍ أعمق وأعقد قليلًا من القراءة التي تم توصيفها في الفقرة السابقة، الحضورَ في وسائل التواصل الاجتماعي وفق ايقاعه البطيء اللازم له، دون أن يتم تجاهله لصالح القارئ السريع.
ونذكر القارئ هنا لأن القراءة هي القاعدة التي تُبنى عليها الكتابة بمختلف أنواعها والفنون بمختلف أشكالها... أي هي القاعدة التي يتأسس عليها الفعل الثقافي برمته، سواء أنتج هذا القارئ منتجًا ثقافيًا في وقت لاحق، أو اكتفى بمكانته كما هي دون زيادة أو نقصان.
وهذا يعني في الواقع دعوةً إلى إحياء مفهوم "الوسط"؛ إذ لا يمكن لمواقع التواصل الاجتماعي أن تحمل الثقل المعرفي الذي يحمله الكتاب، ولا يمكن للكتاب أن يحقق سرعة إيصال الأفكار وتبادلها بالشكل الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي، والفكرة المطروحة هنا هي في خلق مكان تواصلي يجمع بين الاثنين؛ أن يتمكن الفيسبوك مثلاً - رغم ما يُقال عن تجاوزه لصالح مواقع لا لغوية مثل تويتر وإنستغرام وسناب تشات، مع ما تتضمنه التطبيقات الأخيرة من تقنيات يحلّ فيها كائنٌ إلكترونيٌّ ما محلَّ الإنسان الفعلي - من إحداث تحوّل فكري ثقافي معرفي.. أي إحداث تحوّل اجتماعي مهما كانت درجته.
لقد حقق اليوتيوب خطوة جيدة على هذا الصعيد، مستفيدًا من ميزاته كامتدادٍ للتلفزيون وفلترةٍ له يقوم بها المشاهد، وهذا ما أعطى الأخيرَ [أي المشاهد] دورًا في العلاقة بينهما يتجاوز بكثير الدور الذي أعطاه تنافس المحطات التلفزيونية في السابق.
في كل الأحوال، يقدم الواقع الافتراضي، بكل ما فيه من مواهب لامعة في مختلف المجالات، فرصة كبيرة لإمكانية التحوّل المذكورة أعلاه، فهو منصّة حرّكت وأشعلت وأطفأت الكثير من الشرر في عالمنا العربي في العقد الأخير، وكانت من عوامل تعزيز الاستقطاب السياسي والاجتماعي والفكري في أحيان كثيرة، ولكنها أداة مثل أي أداة أخرى يمكن أن تقوم بالدور السلبي أو الإيجابي، وأعتقد أن تعزيز مفهوم "الوسط" يمثل ضرورة أساسية من أجل تحقيق توازن نحتاج إليه في عالمنا العربي على وجه الخصوص.
المشكلة الأساسية في إثارة هذه المسألة هي فكرة "الوسط" ذاتها؛ فـ"الوسط" مفهوم منبوذ في الفكر السياسي والأخلاقي إذ يمثل الرماديَّ المطرودَ من طرفي صراعٍ ما، وهو منبوذٌ في الثقافة كذلك إذ يشير إلى التشابه والتماثل مع الآخرين أي إلى نفي الإبداع من منطلق أن الإبداع كسرٌ لرمادية الجماهير.
أما في تفاصيل الحياة اليومية، في الواقع الإنساني المعاش، فللوسط حضور إيجابي، إذ هو القادر على بناء مسافة متساوية بين الأطراف المختلفة تمكنه من فضّ النزاعات في حال حدوثها، وهو الجامع الذي تلتقي عنده مختلف الآراء بمعزل عن اتفاقه أو اختلافه معها، فهو أقرب إلى أن يكون وظيفةً اجتماعيةً أمومية الطابع، تحدث خلف الاتفاق أو الاختلاف. هذا الوسط الأخير، الرمادي رغم سلبية المفردة، هو ما نحتاج إلى تعزيزه الآن بمساعدة الواقع الافتراضي الذي بات يتشارك مع الواقعِ الفعلي حياةَ الإنسان مناصفةً تقريبًا.
لكل حقبة تاريخية مميزاتها التي تفرضها على معاصريها فرضًا، ومما يفرضه علينا زمننا هذا، التفكير في مفهوم جديد للإنسان يشمل جانبه الافتراضي، إلى جانب إعادة صياغة حقوقه، وتقييم المؤسسات الحالية لهذه الحقوق، ونحن نرى كيف يتم التلاعب فيها واستخدامها أوراق ضغط سياسية ليس إلا؛ وأيضًا البحث في واجبات هذا الإنسان تجاه ذاته وغيره وكوكبه... إلخ. وفي دائرة أضيق التفكير في حضور ثقافتنا العربية في العالم - الآن وليس في زمن مضى، وهذا ما يصعب القيام به في ظلِّ ظروف استقطاب فكري وسياسي وديني/ طائفي كالذي نعيشه الآن.
* كاتبة سورية