في ذكرى "19 مارس"

21 مارس 2016
+ الخط -
شهدت ثورة 25 يناير محطات تاريخية لم تحظ، حتى الآن، بما تستحق من تحليل واهتمام. وصار معتاداً أن تتعرّض أحداث الثورة وتطوراتها لتجاهل رسمي، وتعتيم إعلامي، لكي ينساها الشعب وتضيع معالمها من ذاكرة الوطن. فبعد خمس سنوات من الثورة، باتت ذكرى "19 مارس" تمر يوماً عادياً، كأنه ليس ذلك اليوم التاريخي الذي شهد استفتاءً، ربما لم تشهد مصر مثيلاً له في حجم المشاركة الشعبية ونوعيتها. إنه الاستفتاء الشهير الذي حدّد المسار السياسي لثورة يناير، فبعد إيقاف العمل بدستور 1971، وفقاً للإعلان الدستوري الصادر في 13 فبراير/ شباط 2011، انتقى المجلس العسكري بضع مواد من الدستور نفسه، وأدخل عليها تعديلاتٍ، وأضاف إليها مواد أخرى مستحدثة، ودعا المواطنين للاستفتاء عليها في 19 مارس.
يومئذ، تجسّدت رغبة الشعب المصري، وتعطشه، ليس فقط للتغيير. لكن، أيضاً للمشاركة والإسهام في بناء المستقبل، والإمساك بزمام الحاضر. لا بد من تأمل المشهد المصري في ذلك اليوم، فقد حمل مغزىً عميقاً حاول بعضهم تشويهه، والتشويش عليه لاحقاً، إنه مشهد الصفوف الطويلة الممتدة مئات الأمتار خارج لجان الاستفتاء. وفي كثير منها، طال الوقوف ساعات تخللها سقوط المطر. وعلى الرغم من ذلك، لم تتفكك الصفوف، وتمسّك الوقوف بحقهم في توصيل أصواتهم، وإعلان اختيارهم. عكس ذلك المشهد إيجابيةً، كاد يقتلها التزوير وغياب النزاهة وافتقاد الثقة في استفتاءات عهد حسني مبارك وانتخاباته. لم يكن "19 مارس" استثناء، فقد أكدته أربعة استحقاقات أخرى (انتخابات شعب وشورى ورئاسة ثم استفتاء دستور 2012). بل ليس الأمر مقصوراً على ما بعد 25 يناير، ويمكن الرجوع، في ذلك، إلى نسب المشاركة وتركيبة الناخبين واتجاهات التصويت في استحقاقات ما قبل 1952.
في ذلك دليل دامغ على أن المصريين، شأن كل شعوب الدنيا، يستحقون امتلاك قرارهم. وليس كما ادعى عليهم بعضهم بأنهم غير مؤهلين للديمقراطية. أو كما قال أحدهم متفلسفاً، إن وقتها لم يحن بعد. الديمقراطية آليات وقواعد تنظّم اختيار الشعب لممثليه وحكامه. ولا يوجد شعب جدير بالاختيار، وآخر لا يستحق حرية القرار، لكن توجد شعوب تتنازل عن حقها، وتمنح ثقتها لساسة يُضللونها، فممارسة الحق هي سبيل تطويره وتجويده وليس العكس.
إلا أن "19 مارس" لم يكن خيراً كله، فقد نجح الإسلاميون (أخواناً وسلفيين وغيرهما) بمباركة (بل بمشاركةٍ) من المجلس العسكري، في تحويل الاستفتاء على تعديلات ومواد (بعضها لم يكن ضرورياً أصلاً) إلى مزادٍ لدخول الجنة، ومزايدةً على قيمة وقدسية "الشريعة" التي لم تكن مطروحة أصلاً للاستفتاء عليها. وهكذا، صار التصويت بـ"نعم" مقياساً للإيمان، بل ومحك إسلام المرء أو كفره. وخلف هذه الواجهة الأيديولوجية، جرت عملية تفخيخ محكمة لمراحل واستحقاقات ما بعد 25 يناير. وبدلاً من العمل على وضع نظام سياسي جديد، يعكس إرادة الشعب، ويؤسس لديمقراطية حقيقية ودولة حديثة، بصياغة الدستور أولاً، تم السير عكس الاتجاه المنطقي، وضد طبيعة الأشياء، لتتكرس الفجوة بين شركاء الثورة، تمهيداً للاستفراد بكل منهم على حدة، والقضاء لاحقاً عليهم جميعاً. والغريب أن من انتقدوا بشدة التحالف الديني- العسكري في "19 مارس" وما بعده، ضد بقية القوى والتيارات، هم أنفسهم الذين تحالفت معهم المؤسسة العسكرية بديلاً عن "الإخوان" في "30 يونيو" وما بعده. وفي المرحلتين، كان التحالف وظيفياً مؤقتاً، وحماس الشعب أو غضبه غطاء وذريعة. أما أحلام المصريين ومطالبهم ففي الحالتين هي الضحية.
"19 مارس" ذكرى مهمة للاعتبار والتعلم، حتى إذا استعادت ثورة يناير مسارها، لا يكرّر أصحابُها أخطاءهم. وليستحضر المصريون من هذا اليوم الأمل والاصطفاف، وليس المزايدة والخلاف.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.