في بيتنا مقاوم

06 اغسطس 2014

آثار قصف على منزل فلسطيني في حي الشجاعية (5أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


من العادات والتقاليد المتوارثة في غزة، والتي تعتبر إحدى صور برّ الأبناء بالآباء، الحرص على أن يعيش الابن بعد زواجه في بيت العائلة، وقد ظلَّ الأبناء، حتَّى العام 1994 تحديدًا، حرصاء على تمسُّكهم بهذا التقليد. ولكن، بعد وصول آلاف الفلسطينيين إلى غزَّة مع اتفاقية أوسلو، جرى تغيير كبير في العادات الفلسطينيَّة الأصيلة، وتأثر الشَّباب الغزيُّ بالعادات الوافدة، خصوصاً مع إقبالهم على الارتباط بفتيات فلسطينياتٍ، تربين في دول عربية مختلفة.

وهكذا بدأ الأبناء يتزوَّجون في شقق تقع في البناية نفسها التي يعيش فيها الوالدان، بعد أن يكون قد تزوج باقي الأعمام في البناية نفسها، لتشهد غزة أكبر حركة توسع عمرانية رأسية في السنوات العشرين الأخيرة. مستذكرين أن غزَّة أصغر بقعة جغرافية، تحوي أعلى كثافة سكانيَّة في العالم، فهم يسكنون في شقق علوية، وغالبًا ما تكون ضيِّقة وصغيرة، وغالبًا أيضاً، ما يقسم الدور الواحد لعدة شقق، ليتَّسع لأبناء الابن الواحد.

فليس غريبًا أنَّ بنايةً من ستة طوابق، يعيش فيها حوالي 85 شخصًا، كلُّهم أشقاء وأبناء عمومة، وتشاء الأقدار والظروف أن يلتحق أحدهم بكتائب عزِّ الدِّين القسَّام (الجناح العسكري لحركة حماس)، ويصبح هذا الابن أو الحفيد مطلوبًا لقوات الاحتلال الإسرائيلي، ومع بدء العدوان على غزَّة يضع سكان البناية أيديهم على قلوبهم، توجساً من تعرض البناية للقصف والإزالة عن وجه الأرض، وبالفعل، يتمُّ قصف البناية بكاملها، بسبب انتماء أحد ساكنيها للمقاومة المسلَّحة، ويصبح سكانها في الشارع.

أكثر من عائلةٍ تعرَّضت لمثل هذه النِّهاية، اعتمادًا على مبدأ إسرائيل أن السيِّئة تعمُّ. ولذلك، أدركت إسرائيل بدراستها، جيِّدا، نفسية وتركيبة الشعب الفلسطيني الحريص على تماسكه وترابطه، وحرصه على تقاربه، وكذا الولاء للوالدين، وكلها صفات يفتقد لها مجتمعهم، وقد أحسنوا استغلالها جيِّدًا، وهم يتذَّرعون بأنَّ ما يصل إليهم من معلومات عن مقاوم، أو قيادي مطلوب، ومهم لهم، ما هي إلا معلومات حصلوا عليها من عملائهم المخلصين الذين زرعوا بين أبناء الشَّعب الغزيِّ. والحقيقة أنَّها معلومات، يمكن الوصول إليها بسهولة من تواريخ وسجلات سابقة وقديمة، يحتفظون بها لديهم قبل انسحابهم من غزَّة، ولم تتغير، فالابن الذي أصبح منتمياً لكتائب عزِّ الدِّين القسَّام، أو لسرايا القدس، لا يزال يسكن في بيت العائلة، ولكن في الدور العلوي من البناية مع عائلته الجديدة.

المتتبع للبيوت التي دمرَّت في أثناء العدوان على غزَّة كانت غالبيتها بسبب وجود شخص واحد فيها، وربما لجوء شخص آخر ينتمي لصلة قربى لأهل البيت. ولذلك، ضربت إسرائيل عصفورين بحجر واحد، استطاعت تصفية أحد أهدافها، واستطاعت أن تجعل من المطلوبين والمقاومين الموضوعين على القائمة السوداء لديها غير مرغوبين لدى السُّكان، فلا أحد يقبل أن يستضيفهم، ولا أحد يستقبلهم، وليس ذلك كرهًا للمقاومة. ولكن، لأن بيت الفلسطيني الذي هجّر في العام 1948، وأمضى طوال حياته، وهو يبنيه ويعمره، هو كل ما يملكه، وبدونه يصبح في الشارع، وهذا ما حل بمعظم من دمرَّت بيوتهم، وعندما لجأوا إلى المدارس لحقت بهم القذائف والصواريخ، لتزيد من قتل هممهم، وتدمير روابطهم ببعضهم، والدَّليل أنَّ العائلات التي نزحت من قرية خزاعة تعرضت البيوت التي لجأت لها للقصف، وكأنها تعاقب على إيوائها لهم، ما جعل كثيرين ممن ينتمون للأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية يبتاعون منازل بعيدة عن منازل ذويهم في السَّنوات الأخيرة، لأنَّهم يدركون النِّهاية التي تنتظرهم، فلا عجب أن تجد أن المقاومين من  مدينة خان يونس يتمُّ هدم بيوتهم في بلدة خزاعة، حيث استقروا بها، والتي شهدت مجزرة دموية، أو قنصهم وهم يتجولون في شوارع البلدة.

ما أوجعني مشهد سيدة مسنة، وهي تبكي في أحد المستشفيات، بعد تدمير بيتها فوق رؤوس أولادها وأحفادها، وهي تبكي وتدعو

يا رب يكونوا خلوا  لي واحد..

يا رب يكونوا خلوا لي واحد..

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.