في المنفى قد تهلك بأغنية

13 اغسطس 2015
في المنافي تفهم كيف تُعاش فكرة عالمية الموسيقا (Getty)
+ الخط -
مضت ثلاثون سنة، لم أعر خلالها اهتماماً لما تراكم في الذهن من ذاكرة سمعية، ولم يخطر في بالي أنها ستستيقظ يوماً على بعد آلاف الأميال من كل شيء، مشهرة في وجهي سلاح الحنين.


كان صوت فيروز اعتيادياً كالضوء كل صباح، يجدد ألقَه سرٌّ ما تكتشفه في أغنياتها كل مرة. 
فيما كانت المقامات العراقية تتساقط في مساءاتنا كالليل حزينة كثيفة، يخلخلها عود السنباطي ويشق عبرها مدى باتساع الحلم.

كيف تشرح لهذا المحيط أن لصوت فيروز رائحة أمك، وأن الآهات في الأبوذيات العراقية مموجة كالشيب في رأس أبيك؟! كيف تقول لهم إن الموليا طقس يليق بحضرة، وإن القصب معدن الآلهة الأول، وإن بداخلك بدوياً يشف حتى يكاد أنين الناي يمتصه، وإنك تصفق بعد حضور كل كونشرتو بأكف من هواء وقلبك يستعيد المواويل كتعويذة؟

في المنافي تفهم كيف تُعاش فكرة عالمية الموسيقا، وعبورها للجنسيات، لكنك مع كل مرة تصغي فيها لعزف بيانو جميل، تردم في قلبك ثقباً يحاول نغم شرقي أن يمد أصابعه منه إلى الذاكرة، يؤلب فيها ما تحاول أن تنساه.

حين تتنقل في الشوارع الشهيرة هنا، يصعب عليك في غمرة هذا الفيض من الحضارة أن تصارح نفسك بما يحدث لك بين الحين والآخر حين تخطر في بالك أغنية شعبية، صادف أن اقترنت في ذاكرتك المتعبة بصور الأحياء وأنت تعبرها في حافلات النقل العام، وكلما استيقظت أيقظت معها روائح من حمص ودمشق وحلب..

هنا تجرب البحث عن موسيقا بكماء، تتحاشى ازدواجية اللحن في داخلك حين يصلح لعبارة حب وثورة في آن، فقد غادرت شوارع سورية محملاً بفن جديد، بأغان خلعت كلمات ولبست أخرى، وصار لها مفعول الخمر، كلما رددتها حلقت عالياً وسقطْت... ماذا تفعل بـ "YouTube" الذي يصير سلاحاً بحدين، تخاف أن تفتح عليك سيل ذكريات تعرف أنك تتجنبها مع ما يقترحه عليك، هذه كانت أغنية صديقك الشهيد المفضلة، وهذه كانت آخر أغنية تقاسمتها مع حبيبتك، أما هذه فكانت حسب روايات الرفاق آخر أغنية ملأت فضاء ذاك الحي الرقاوي الصغير قبل أن يخيم عليه الظلام..

هنا في المنافي تضع يدك على قلبك كلما تذكرت أن "زياد" خذلك، وتمتزج الغصة بالحلم وأنت تردد أغاني مارسيل، وتمنع دمعة من السقوط أمام شركائك في اللحن المعولم، كيف تبوح بخيبة الإصغاء لسنوات إلى ما ظننت ثورتك تتمة طبيعية له وخاب ظنك!

الأغاني هنا تصلح للجميع، لكن في داخلك أغاني تخصك وحدك وتخص الشرق المنحل فيها بكامل غموضه وسلاسته..

ضمد هذا الشرق النازف في ذاكرتك، واحذر أن تنقل عدوى النغم إلى عالم قرر منذ وقت طويل أن يغادر الحزن، وأنت تسير فيه حاملاً أغانيك كخطيئة، وتريد في كل لحظة أن تصرخ بأن أجمل ما نحمله هو خطايانا..

(سورية)
المساهمون