في المجتمع المدني مشروعاً للمستقبل

21 ابريل 2017

جانب من ندوة "مستقبل المجتمع المدني" في الرباط

+ الخط -
عقدت، نهاية الأسبوع الماضي، في الرباط، ندوة مهمة عن "مستقبل المجتمع المدني على ضوء التحولات العربية الراهنة"، شكلت مناسبة لما سمّاه المفكر محمد سبيلا مغامرة للخروج من التصورات الجاهزة، اليومية والمستهلكة التي ينتجها الفاعلون حول الموضوع.
تاريخيا، تعود الإرهاصات الأولى للتجربة المغربية في مجال المجتمع المدني إلى بدايات الممارسة الجمعوية، كما انطلقت على الأقل، خلال عهد الاستقلال. هذه الممارسة التي انطلقت في سياق رمزيٍ مسكونٍ بحماس بناء الدولة الوطنية الفتية، والرغبة الجماعية في تشييد المجتمع الجديد الناهض على أحلام أجيال ما بعد الاستقلال.
حسم الصراع السياسي المُتفجر في السنوات الأولى للاستقلال لغير صالح الحركة الوطنية، وتم التأسيس لنظام سلطوي بواجهة ليبرالية مقنعة، ما سيؤدي عمليا إلى هامشية الحقل السياسي وهشاشته، وهو ما سيعمل بالتالي على الرفع من منسوب تضخم الرهانات السياسية داخل باقي قطاعات الفعل المجتمعي؛ داخل الجمعيات، كما داخل النقابات.. حيث ستبرز الحركة الجمعوية، خصوصا خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، كإحدى روافد النضال الديمقراطي، في الواجهات الحقوقية، النسائية، التربوية والثقافية، وكإحدى حقول المواطنة المتبلورة من قلب كوابح التأخر التاريخي للمجتمع.
فقط مع مطلع التسعينيات، سينطلق الحديث المتواتر حول فرضية ميلاد مجتمع مدني مغربي، مستقل عن الدولة وعن الأحزاب السياسية، سواء انطلاقا من قراءة ديناميات تنظيمية، مثل المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، أو من خلال تحليل تظاهرات جماهيرية غير مسبوقة مثل تظاهرة التضامن مع الشعب العراقي.
ستبرز، خلال هذا العقد، تحولات أساسية في خريطة الجمعيات، سواء من خلال الانفتاح على أدوار واهتمامات جديدة، ذات علاقة بقضايا التنمية الاجتماعية، وبإشكاليات البيئة، وذات هويات مطلبية (مثل جمعيات المعطلين)، وأكثر اهتماما على العموم بالشأن العام المحلي.

الواقع أن ظهور مفهوم المجتمع المدني في هذا السياق كان محكوما بتحولاتٍ سياسيةٍ جعلت من الممكن انبثاق مسافة ممكنة بين مشروعي الدولة والمعارضة، تسمح بظهور مقارباتٍ أخرى للشأن العام من فاعلين جدد، وبتحولاتٍ اقتصادية جعلت نموذج الاقتصاد السياسي المبني على الهيمنة الدولتية للقطاع العام يصل إلى مأزق حاد.
في الخلفية العامة، كان الأمر يتعلق بمفردةٍ تنتمي إلى المعجم الجديد للديمقراطية وحقوق الإنسان الذي جاء على أنقاض المعجم الآيل للأفول والمشكل حول شعارات: "الوحدة والاشتراكية والتنمية"، بحكم سياق تحولات ما بعد 1989.
انطلق تلقِّي النخب المغربية والعربية للمفهوم من لحظة إعادة إحيائه في مسار التحول الديمقراطي لدول أوروبا الاشتراكية. لذلك ظل يحمل، في التداول العمومي، مضمون السلطة المضادة للدولة، أكثر مما يحمل مضمونه التأسيسي، كما برز في عصر الأنوار، باعتباره جزءا من منظومة الحداثة السياسية المبنية على العقد الاجتماعي، وتحرير المجال السياسي من السلطة الدينية.
استحضار سياق تبلور المفهوم، وزمن إعادة إحيائه، وتحليل مستويات تلقيه واستعمالاته في بلادنا، يبقى مهما من أجل ممارسة نقد مزدوج للتمثلات الجماعية المنتجة حول المجتمع المدني ولواقع الممارسة؟ ذلك أن هذا النقد يسمح بتفكيك الخطاب حول المجتمع المدني، وتحليل منطق الاستعارة الذي ينبني عليه.
أولى الملاحظات على هذا الخطاب المنتج داخل فضائنا العمومي هي الميل إلى اختزال دينامية المجتمع المدني في خريطة الجمعيات، والانزلاق تبعا لذلك في تقييم هذه الدينامية، بناءً على مؤشرات كمية، تكاد توحي بأن الكثافة الجمعوية تعني انتقالا جاهزا كاملا إلى حالة مجتمع مدني بكل حمولته القيمية. ثاني الملاحظات أنه يتعلق من ذلك ما يبدو من سيادة لتصورٍ مغرقٍ في الشكلانية، لا يتحدث إلا لغة القانون، لكي يحكم على ظاهرة مجتمعية معقدة، انطلاقا من التقدم المعياري المسجل في النصوص. ثالثها، ترتبط بهيمنة رؤية للمجتمع المدني بتصور معاكس لوظيفته الأصلية، يتحول معها إلى مجرد أداةٍ في خدمة أجندة سياسات الدولة، وامتداد عضوي لبرامجها. رابعها، يرتبط برهان الإيديولوجيا القانونية على تنميط المجتمع المدني في خانة خدماتية، وتسييج حرية أدائه بمجموعة من المساطر والإجراءات، مع استبعاد إمكانيات إسهامه في التنمية الديمقراطية أو الحوار العمومي وتدعيم الحس النقدي العام.
تتطلب هذه الملاحظات السريعة على السهولة التي يتم عبرها تداول مفهوم المجتمع المدني، التذكير بأن الأمر يتعلق في النهاية بحالة ثقافية وليس قانونية، وبأن مسار تشكله لا يوجد بعيدا عن دينامية بناء المواطنة، كمسار تاريخي وثقافي وسياسي وقيمي طويل ومعقد.
لذلك، يبقى المجتمع المدني مشروعا ينتمي إلى المستقبل، ويرتبط بأفق الحداثة السياسية والمواطنة والحرية.
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي