18 يناير 2019
عن مذكرات زعيم يساري مغربي
في قوائم ما يمكن تسميته، بتعسفٍ كثير، دخولا ثقافيا مغربيا، ثمّة عنوان لافت. إنه مذكرات المقاوم والسياسي اليساري، محمد بنسعيد، الصادرة عن المؤسسة التي تحمل اسمه، والتي تُعنى بالأساس بجهد مقدّر في حفظ ذاكرة النضال الوطني والسياسي في المغرب، والدفاع عن القيم الكبرى التي صاغتها التجربة الإنسانية والنضالية لجيل الرواد الذين رافقوا، في بدايات شبابهم، ولادة الفكرة الوطنية المغربية شكلا جديدا للانتماء ومشروعا ثقافيا واجتماعيا للوجود والمستقبل والوجود، ليعيشوا بعد ذلك، بما يكفي من التزام وانخراط وتفاعل، لحظةً تأسيسيةً ليست سوى استقلال البلاد، وانطلاق دورة سياسية جديدة بتقاطباتٍ مغايرةٍ وأسئلةٍ حارقة، شكلت الديمقراطية واحدةً من أكثرها إثارةً للخلاف، بل قل للصراع والتطاحن، وليعبروا، ضمن هذا السياق، من التباسات أيام الاستقلال الأولى الموزّعة بين الأمل والإحباط، إلى الوضوح القاسي للخيارات السلطوية لسنوات الستينيات والسبعينيات، والجزر الحاد لثمانينيات الاحتجاج والقمع وسياسات التقشف، وصولا إلى نوافذ الأمل التي بدأت تشرع وعودها بالتغيير منذ التسعينيات، من خلال البحث عن ميثاقٍ سياسيٍّ جديد، محمولٍ على خلفية إنهاكٍ عام للبلاد. ولكن كذلك لأن عالما جديدا كان قد انطلق في التشكّل من الأحجار المتناثرة من الجدار البرليني الشهير. ستقاوم الوعود نفسها جدلية الفشل واليأس، مع مجيء ملك جديد، وفتح باب الإنصاف والمصالحة، ثم مع قدوم ربيع مغربي على إيقاع انفجارات 2011، سيترك هو الآخر مكاسب للتاريخ، بقدر ما سيغذّي إرادات التراجع والنكوص.
التحق بنسعيد الذي تلخص حياته قرنا مغربيا حافلا بالدلالات السياسية والثقافية، في شبابه
الأول، بمقاومة الاستعمار، من باب الوطنية المغربية الناشئة، ومن قلب أحد تعبيراتها الحزبية الأكبر، حزب الاستقلال، ليجد نفسه في نهاية الخمسينيات إلى جانب المنشقين عن هذا التنظيم، ضمن ما ستسميه أدبيات كثيرة سائدة خلال تلك المرحلة بالجناح التقدّمي للحركة الوطنية، والتي كانت أكثر إلحاحا في ربط غايات الاستقلال الوطني بأهداف التحرّر السياسي، وإعادة بناء النظام السياسي على أسسٍ أكثر شعبية، على أنه سيرتبط خلال السبعينيات بجيل اليسار الجديد الذي حدّد تموقعه على يسار القوى الوطنية، مأخوذا بخيبة الاستقلال كما تجسّدت بمشهديةٍ مثيرةٍ، في أحداث الدار البيضاء في 23 مارس/ آذار 1965، وبمرارة الانتماء القومي خلال نكسة 1967، وبالآمال الغامضة التي فجرتها انتفاضة الشباب في مايو/ أيار 1968.
رفقة شباب تنظيم 23 مارس، أحد تعبيرات اليسار الجديد المغربي، سيقود بنسعيد تجربة الولوج إلى الشرعية، والقطع مع اختيار السرية، حيث سيعود من المنفى لزعامة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، إحدى التجارب التنظيمية اليسارية التي طبعت اليسار العربي، طوال الثمانينيات والتسعينيات، بقدرتها على تجاوز عائق الانتشار الجماهيري، بأداء إعلامي لافت، جسّدته صحيفة أنوال، وبحساسية عروبية مقدامة، وبإسهام وازن في إغناء الثقافة السياسية التقدمية، ودعم فكرة الإصلاح والدفاع عن القضية الوطنية من داخل مقولات اليسار، وبالتميز في بناء حركة نسائية بنفسٍ جديد.
بين بنسعيد الشاب المنخرط في خلايا المقاومة ضد الاستعمار وبنسعيد الشيخ المحمول، في صورة أيقونية، على أكتاف شباب من حركة 20 فبراير أمام مقر الحزب الاشتراكي الموحد في إحدى تظاهرات 2011، مسار ممتد من التحولات والرهانات والأحلام والوقائع، وعلامات من الالتقاء والتقاطع بين الذاكرة الشخصية والتاريخ السياسي العام.
كتاب "هكذا تكلم محمد بنسعيد" محاولة لاستعادة فصولٍ من هذا الامتداد في الزمن والأحداث والسياسة الوطنية، وهو بالمناسبة جزءٌ أول من مذكرات هذا المقاوم، على أنه ليس إصداره الأول، فبنسعيد سبق له نشر أكثر من كتاب، بالخلفية نفسها، أي استعادة أحداثٍ كبرى من التاريخ المعاصر، من باب الشهادة والذاكرة.
يقدّم بنسعيد، في هذا الجزء، محكياته عن وقائع وأحداث، مثل تأسيس الكتلة الديمقراطية،
والعلاقة بين أحزابها والملك الحسن الثاني الراحل، وخلفيات بعض محطات الإصلاح الدستوري والسياسي، وتفاصيل بشأن تجربته عضوا في مجلس النواب المغربي.
وقد شهد المغرب، في بدايات الألفية، حالة انفجار للذاكرة السياسية والنضالية، تمثلت في تتالي عناوين متعدّدة تناولت تجارب الاعتقال السياسي والمنافي، سواء من خلال كتابات للذاكرة أو أعمال إبداعية متخيلة، وفي انفتاح الصحافة المستقلة على ملفات وأحداث ظل الاقتراب منها يدخل سنواتٍ ضمن خانة الممنوع. وقد أسهم مناخ الإنصاف والمصالحة في إعادة تملك الماضي، وفي إطلاق حالة بوح عمومي حر، ولفت الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالتاريخ الراهن، ووضع الذاكرة السياسية، الشخصية، المطبوعة بالتجربة تحت أنظار المؤرخ وعالم السياسة والاجتماع لبناء خطابٍ منحاز للحقيقة والموضوعية.
في السياق القريب لهذا الإصدار الجديد، لا بد من الانتباه إلى ما يشبه موجة تواتر ملحوظ في الإصدارات ذات الصلة بجنس المذكرات السياسية، ذلك أن رئيس الحكومة الأسبق والقائد اليساري، عبد الرحمن اليوسفي، نشر، في مارس/ آذار السنة الماضية، تزامنا مع عيد ميلاده الرابع والتسعين كتاب "أحاديث في ما جرى". وكان قد سبقه في ذلك عبد الواحد الراضي الذي تحمل، هو الآخر، مسؤولية قيادة الاتحاد الاشتراكي، وترأس البرلمان عدة ولايات، عندما نشر قبل سنتين مذكراته "المغرب الذي عشته". وإلى جانب هذه المؤلفات، تحفل المكتبة السياسية بإصداراتٍ حديثة لفاعلين عديدين، مقاومين وسياسيين وقادة أحزاب ووزراء سابقين.
واذا كان هذا الحيز لا يسمح بتقييم هذا المنجز المتواضع لسجل الجيل الثاني لهذه المذكرات، ولا بصيغ كتابتها، وحدود الحكي داخل بنيتها، وبياضاتها، وتقاطعاتها، ومدى إضاءاتها عتماتٍ عديدة تطبع جوانب من التاريخ السياسي، فإن الملاحظة السريعة التي قد يستدعيها هذا الحديث تسمح بالانتباه إلى التفاوت في أنماط هذه الكتابات، وبنزعة غالبة في الاحتفاظ بمناطق ظل واسعة، على أن ذلك لا يحجب حقيقة أن هذا المنجز يفتح كوّة ضوء صغيرة، وسط جدارٍ سميك صنعته ثقافة الكتمان والسرية التي ظلت وسما طاغيا للحياة السياسية المغربية المعاصرة.
التحق بنسعيد الذي تلخص حياته قرنا مغربيا حافلا بالدلالات السياسية والثقافية، في شبابه
رفقة شباب تنظيم 23 مارس، أحد تعبيرات اليسار الجديد المغربي، سيقود بنسعيد تجربة الولوج إلى الشرعية، والقطع مع اختيار السرية، حيث سيعود من المنفى لزعامة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، إحدى التجارب التنظيمية اليسارية التي طبعت اليسار العربي، طوال الثمانينيات والتسعينيات، بقدرتها على تجاوز عائق الانتشار الجماهيري، بأداء إعلامي لافت، جسّدته صحيفة أنوال، وبحساسية عروبية مقدامة، وبإسهام وازن في إغناء الثقافة السياسية التقدمية، ودعم فكرة الإصلاح والدفاع عن القضية الوطنية من داخل مقولات اليسار، وبالتميز في بناء حركة نسائية بنفسٍ جديد.
بين بنسعيد الشاب المنخرط في خلايا المقاومة ضد الاستعمار وبنسعيد الشيخ المحمول، في صورة أيقونية، على أكتاف شباب من حركة 20 فبراير أمام مقر الحزب الاشتراكي الموحد في إحدى تظاهرات 2011، مسار ممتد من التحولات والرهانات والأحلام والوقائع، وعلامات من الالتقاء والتقاطع بين الذاكرة الشخصية والتاريخ السياسي العام.
كتاب "هكذا تكلم محمد بنسعيد" محاولة لاستعادة فصولٍ من هذا الامتداد في الزمن والأحداث والسياسة الوطنية، وهو بالمناسبة جزءٌ أول من مذكرات هذا المقاوم، على أنه ليس إصداره الأول، فبنسعيد سبق له نشر أكثر من كتاب، بالخلفية نفسها، أي استعادة أحداثٍ كبرى من التاريخ المعاصر، من باب الشهادة والذاكرة.
يقدّم بنسعيد، في هذا الجزء، محكياته عن وقائع وأحداث، مثل تأسيس الكتلة الديمقراطية،
وقد شهد المغرب، في بدايات الألفية، حالة انفجار للذاكرة السياسية والنضالية، تمثلت في تتالي عناوين متعدّدة تناولت تجارب الاعتقال السياسي والمنافي، سواء من خلال كتابات للذاكرة أو أعمال إبداعية متخيلة، وفي انفتاح الصحافة المستقلة على ملفات وأحداث ظل الاقتراب منها يدخل سنواتٍ ضمن خانة الممنوع. وقد أسهم مناخ الإنصاف والمصالحة في إعادة تملك الماضي، وفي إطلاق حالة بوح عمومي حر، ولفت الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالتاريخ الراهن، ووضع الذاكرة السياسية، الشخصية، المطبوعة بالتجربة تحت أنظار المؤرخ وعالم السياسة والاجتماع لبناء خطابٍ منحاز للحقيقة والموضوعية.
في السياق القريب لهذا الإصدار الجديد، لا بد من الانتباه إلى ما يشبه موجة تواتر ملحوظ في الإصدارات ذات الصلة بجنس المذكرات السياسية، ذلك أن رئيس الحكومة الأسبق والقائد اليساري، عبد الرحمن اليوسفي، نشر، في مارس/ آذار السنة الماضية، تزامنا مع عيد ميلاده الرابع والتسعين كتاب "أحاديث في ما جرى". وكان قد سبقه في ذلك عبد الواحد الراضي الذي تحمل، هو الآخر، مسؤولية قيادة الاتحاد الاشتراكي، وترأس البرلمان عدة ولايات، عندما نشر قبل سنتين مذكراته "المغرب الذي عشته". وإلى جانب هذه المؤلفات، تحفل المكتبة السياسية بإصداراتٍ حديثة لفاعلين عديدين، مقاومين وسياسيين وقادة أحزاب ووزراء سابقين.
واذا كان هذا الحيز لا يسمح بتقييم هذا المنجز المتواضع لسجل الجيل الثاني لهذه المذكرات، ولا بصيغ كتابتها، وحدود الحكي داخل بنيتها، وبياضاتها، وتقاطعاتها، ومدى إضاءاتها عتماتٍ عديدة تطبع جوانب من التاريخ السياسي، فإن الملاحظة السريعة التي قد يستدعيها هذا الحديث تسمح بالانتباه إلى التفاوت في أنماط هذه الكتابات، وبنزعة غالبة في الاحتفاظ بمناطق ظل واسعة، على أن ذلك لا يحجب حقيقة أن هذا المنجز يفتح كوّة ضوء صغيرة، وسط جدارٍ سميك صنعته ثقافة الكتمان والسرية التي ظلت وسما طاغيا للحياة السياسية المغربية المعاصرة.