27 أكتوبر 2024
في العلاقة بين النُخبة المصرية وثورة 25 يناير
".. فالعوامل الداخلية والعوامل الخارجية قد اشتركت، إذن، فيما آل إليه مصير الثورة العرابية من الإخفاق، وما انتهت إليه من الاحتلال، ولا تصرفنا هذه الملابسات على أن نتعرّف الحقيقة المؤلمة التي تبرز من خلال الحوادث، فنأخذ على أسلافنا في الثورة أنهم، في الجملة، لم يضطلعوا بأعبائها، ولم يبذلوا لها وللوطن كل ما يجب من إخلاص وكفاءة وتضحية، وإيثار للمصالح القومية على العوامل الشخصية، ولو أنهم بذلوا ذلك كله لتغيّر مصير الثورة إلى خيرٍ ممّا كان، فليكن لنا في هذه الناحية والنواحي الأخرى من تاريخ الثورة عِبر وعِظات وحقائق وبيّنات، تُطالعنا بما يجب أن يكون عليه الجهاد الخالص لله والوطن". .. بهذه العبارات الموجزة الحاسمة، اختتم شيخ المؤرِّخين المصريين، عبد الرحمن الرافعي، جوابه المطوّل على سؤاله: لماذا أخفقت الثورة العرابية؟ في نهاية كتابه "الثورة العرابية والاحتلال الإنكليزي". ومن الواضح من جوابه أنّه يُحمِّل مسؤولية فشل الثورة على النخبة الثورية.
وتجدر الإشارة إلى أن الثورة العرابية كانت سابقة لعصرها بمراحل كبيرة، فقد انطلقت من شعار "مصر للمصريين" الذي جمع بين ضبّاط الجيش الوطنيين ورجال الحركة الوطنية، وأزمعت الثورة إعلان الجمهورية، بيْد أنها تردّدت في عزل الخديوي، ولم تتخذ إجراءات حاسمة لتفكيك الأوضاع القديمة، وشبكات أصحاب المصالح من كبار الباشوات المصريين، وحلفائهم الأجانب، بعدما دبّ الانقسام في صفوف الثوريين الذي أدّى إلى إجهاضها كلياً.
وإذا عقدنا مقارنة بين الثورتين، العرابية و25 يناير، وبغضّ النظر عن اختلاف السياق
التاريخي، والشخوص، والتفاصيل، لوجدنا أنّ التوصيف الأفضل للمحصّلة النهائية للمشهديْن هو المقولة الماركسية: "التاريخ يُعيد نفسه ... في المرة الأولى تكون مأساة، وفي الثانية تكون ملهاة"، فالقاسم المشترك الأكبر بين المشهديْن هو الانقسام النخبوي الذي أهدر فرصة تاريخية على الوطن. بيْد أنّ الثورة العرابية كانت أفضل حالاً وأحسن حظّاً من ثورة 25 يناير، فقد كانت بقيادة ثورية معروفة ومحددّة، بعكس الثانية التي جاءت من دون رأس أو قيادة، ما جعلها مطيّةً لكل راكبٍ، وكلأً مستباحاً لكل مدعٍّ من أدعياء الثورية الكاذبة. وبلغ الأمر أننا رأينا الخَليَّ يدّعي حُرقة الشَجيِّ من دون حياء أو خجل، فقد كان لبعضهم تاريخ معلوم للكافة في التطبيل والتزمير للسلطة، ثمّ تحوّل، بين عشية وضحاها، إلى رمز ثوري ومناضل مغوار (!).
بالطبع، لا يمكن مقارنة النُخبة السياسية المصرية، في نسختها الأخيرة، بنظيراتها في حقبٍ سابقة، فهي بكل ألوانها الأيديولوجية "خارج المنافسة"، فهي النخبة الأحطّ والأسوأ والأردأ في تاريخ مصر الحديث بالكامل، من حيث الوعي السياسي، والتكوين المعرفي، والثقافي والأخلاقي، كونها النتاج الطبيعي لعصر حسني مبارك عصر التجريف الكامل للتربة المصرية على كلّ المستويات، إلا أنّ الأخطاء تتشابه، وكادت أن تتطابق بصورة شديدة المأساوية (!).
تحقق في 11 فبراير/ شباط 2011 إنجاز تاريخي غير مسبوق في تاريخ الحركة الوطنية المصرية، فقد نجح المصريون، لأول مرّة، في إطاحة حاكم بإرادتهم الشعبية الحرّة دون سواها، عندما نجحت ثورة 25 يناير في خلع حسني مبارك بعد نحو 30 عاماً له في سدّة السلطة، ثالث أطول حاكم في تاريخ مصر كلّه بعد رمسيس الثاني ومحمد علي. حينئذٍ عمّت الفرحة مصر من أقصاها إلى أقصاها، بعدما شعر جموع المصريين أنّ الوطن وطنهم جميعاً، وأنهم أصحاب السيادة والكلمة العليا، وأنهم يستنشقون عبق الحرية، فقد كان المشهد الاحتفالي في مصر، في ذلك اليوم، بمثابة استفتاء شعبي على مدى التأييد الأسطوري الكاسح لثورة 25 يناير، في مواجهة نظام سلطوي فاشل، كاد أن يكون توريثاً من الأبّ إلى الابن، إلا أنّ ما جرى بعد ذلك ينطبق عليه قول الشاعر: أَمَلٌ رَجوناهُ وبِتنا نَرْقبه/ حتّى إذا ما كانَ ضلَّ مَقصدَه.
يعود نجاح ثورة يناير في إطاحة مبارك إلى أنها اندلعت على يد مجموعات شبابية على قدرٍ من التجرّد والإخلاص، بعيداً عن النُخبة السياسية القديمة، بكل أدرانها وأمراضها الأزلية المُزمنة المستفحلة، فهذه نُخبة ألفت مياسرة الفساد ومسايرة الاستبداد، بعدما احترفت الشقاق وخاصمت الوفاق، واتفقت على ألّا تتفق، وكانت اللحظة الوحيدة التي اجتمعت فيها إرادة الجميع، واتحدت خلف مطلب جماعي واحد، هي اللحظة التي أصرّوا فيها على ضرورة رحيل مبارك.
وما إن انتهت اللحظة الاستثنائية، وتمكّن فرقاء النخبة السياسية من إطاحة مبارك، حتى سارعوا بالتفرّق والعودة إلى التمترس خلف الأسوار الأيديولوجية، والتخندق داخل الحصون الفكرية، مع استعادة تاريخ طويل من المرارات والحزازات الأيديولوجية، ما أحدث مناخاً
مسموماً، ساده غياب الثقة وسوء الظنّ المُتبادَل. وازدادت الطين بلّة (بالأدق بلّات) مع اندلاع الاستقطاب "النخبوي" الإسلامي – العلماني الذي أدّى إلى حالةٍ عاتيةٍ من الاحتراب الثقافي الفصائلي. وكانت المُحصّلة أن فرقاء النُخبة السياسية كانوا حرباً وناراً على بعضهم بعضاً، في حين كانوا برداً وسلاماً على شبكات المصالح القديمة من نظام حسني مبارك، حيث كان كل فريق على أتمّ استعداد للتحالف مع النظام القديم، من أجل الإجهاز على الفريق الآخر.
أمّا الشباب فقد وقعوا في أخطاء جسيمة، قادتها حالة السيولة الفكرية والتنظيمية التي ألمّت بهم منذ البداية، أبرزها أنّ بعضهم تضخّمت ذواتهم بسرعة، تحت تأثير أضواء الكاميرات، وزخّات الثناء والإطراء الإعلامي على "شباب الثورة"، بالإضافة إلى وقوع بعضهم في فخّ الزعامة "الافتراضية" تحت وقع العدد الكبير من المُعجَبين والمُتابعين لصفحته في الفضاء السيبيري، فقد كان بعض الشباب يتحدّث عن المجلس العسكري وكأنّه يأتمر بأمره، ورهن إشارته، من دون حصافة أو تقدير راجح لدوره في إطاحة مبارك، ومن دون إدراك للحقائق وموازين القوى على الأرض، كما لم يفرّق بعضهم بين آليات الهدم وآليات البناء، فخلط بين وظيفة الحركة الاحتجاجية أو جماعات الضغط الجماهيري، ووظيفة الحزب السياسي، فظنّ أن الثورة تعني "الاحتجاج الدائم"، وكانت المحصّلة انقسام الشباب على عشرات الائتلافات الثورية، المصحوبة بموجة من التخوين المُتبادَل فيما بينها.
وبذلك، كانت المُحصّلة النهائية هي إعادة تدوير المُخلّفات السياسية، وعودة تلك الوجوه البالية المُستهلَكة من نفايات النُخبة القديمة المُحنّطة التي فقدت شرعيتها منذ زمن بعيد، بكل أطيافها وألوانها الأيديولوجية، وأشهرت إفلاسها السياسي والفكري والأخلاقي، والتي باتت جزءاً من المشكلة، ولن تكون بأي حال جزءاً من الحلّ، فصارت عقبةً كأداء أمام مستقبل الوطن، بعدما أهدرت فرصة تاريخية للتحوّل الديمقراطي، ما يفرض عليها أن تتوارى وتختفي من صدارة المشهد، وتذهب إلى مكانها الأليق: متحف التاريخ.
وتجدر الإشارة إلى أن الثورة العرابية كانت سابقة لعصرها بمراحل كبيرة، فقد انطلقت من شعار "مصر للمصريين" الذي جمع بين ضبّاط الجيش الوطنيين ورجال الحركة الوطنية، وأزمعت الثورة إعلان الجمهورية، بيْد أنها تردّدت في عزل الخديوي، ولم تتخذ إجراءات حاسمة لتفكيك الأوضاع القديمة، وشبكات أصحاب المصالح من كبار الباشوات المصريين، وحلفائهم الأجانب، بعدما دبّ الانقسام في صفوف الثوريين الذي أدّى إلى إجهاضها كلياً.
وإذا عقدنا مقارنة بين الثورتين، العرابية و25 يناير، وبغضّ النظر عن اختلاف السياق
بالطبع، لا يمكن مقارنة النُخبة السياسية المصرية، في نسختها الأخيرة، بنظيراتها في حقبٍ سابقة، فهي بكل ألوانها الأيديولوجية "خارج المنافسة"، فهي النخبة الأحطّ والأسوأ والأردأ في تاريخ مصر الحديث بالكامل، من حيث الوعي السياسي، والتكوين المعرفي، والثقافي والأخلاقي، كونها النتاج الطبيعي لعصر حسني مبارك عصر التجريف الكامل للتربة المصرية على كلّ المستويات، إلا أنّ الأخطاء تتشابه، وكادت أن تتطابق بصورة شديدة المأساوية (!).
تحقق في 11 فبراير/ شباط 2011 إنجاز تاريخي غير مسبوق في تاريخ الحركة الوطنية المصرية، فقد نجح المصريون، لأول مرّة، في إطاحة حاكم بإرادتهم الشعبية الحرّة دون سواها، عندما نجحت ثورة 25 يناير في خلع حسني مبارك بعد نحو 30 عاماً له في سدّة السلطة، ثالث أطول حاكم في تاريخ مصر كلّه بعد رمسيس الثاني ومحمد علي. حينئذٍ عمّت الفرحة مصر من أقصاها إلى أقصاها، بعدما شعر جموع المصريين أنّ الوطن وطنهم جميعاً، وأنهم أصحاب السيادة والكلمة العليا، وأنهم يستنشقون عبق الحرية، فقد كان المشهد الاحتفالي في مصر، في ذلك اليوم، بمثابة استفتاء شعبي على مدى التأييد الأسطوري الكاسح لثورة 25 يناير، في مواجهة نظام سلطوي فاشل، كاد أن يكون توريثاً من الأبّ إلى الابن، إلا أنّ ما جرى بعد ذلك ينطبق عليه قول الشاعر: أَمَلٌ رَجوناهُ وبِتنا نَرْقبه/ حتّى إذا ما كانَ ضلَّ مَقصدَه.
يعود نجاح ثورة يناير في إطاحة مبارك إلى أنها اندلعت على يد مجموعات شبابية على قدرٍ من التجرّد والإخلاص، بعيداً عن النُخبة السياسية القديمة، بكل أدرانها وأمراضها الأزلية المُزمنة المستفحلة، فهذه نُخبة ألفت مياسرة الفساد ومسايرة الاستبداد، بعدما احترفت الشقاق وخاصمت الوفاق، واتفقت على ألّا تتفق، وكانت اللحظة الوحيدة التي اجتمعت فيها إرادة الجميع، واتحدت خلف مطلب جماعي واحد، هي اللحظة التي أصرّوا فيها على ضرورة رحيل مبارك.
وما إن انتهت اللحظة الاستثنائية، وتمكّن فرقاء النخبة السياسية من إطاحة مبارك، حتى سارعوا بالتفرّق والعودة إلى التمترس خلف الأسوار الأيديولوجية، والتخندق داخل الحصون الفكرية، مع استعادة تاريخ طويل من المرارات والحزازات الأيديولوجية، ما أحدث مناخاً
أمّا الشباب فقد وقعوا في أخطاء جسيمة، قادتها حالة السيولة الفكرية والتنظيمية التي ألمّت بهم منذ البداية، أبرزها أنّ بعضهم تضخّمت ذواتهم بسرعة، تحت تأثير أضواء الكاميرات، وزخّات الثناء والإطراء الإعلامي على "شباب الثورة"، بالإضافة إلى وقوع بعضهم في فخّ الزعامة "الافتراضية" تحت وقع العدد الكبير من المُعجَبين والمُتابعين لصفحته في الفضاء السيبيري، فقد كان بعض الشباب يتحدّث عن المجلس العسكري وكأنّه يأتمر بأمره، ورهن إشارته، من دون حصافة أو تقدير راجح لدوره في إطاحة مبارك، ومن دون إدراك للحقائق وموازين القوى على الأرض، كما لم يفرّق بعضهم بين آليات الهدم وآليات البناء، فخلط بين وظيفة الحركة الاحتجاجية أو جماعات الضغط الجماهيري، ووظيفة الحزب السياسي، فظنّ أن الثورة تعني "الاحتجاج الدائم"، وكانت المحصّلة انقسام الشباب على عشرات الائتلافات الثورية، المصحوبة بموجة من التخوين المُتبادَل فيما بينها.
وبذلك، كانت المُحصّلة النهائية هي إعادة تدوير المُخلّفات السياسية، وعودة تلك الوجوه البالية المُستهلَكة من نفايات النُخبة القديمة المُحنّطة التي فقدت شرعيتها منذ زمن بعيد، بكل أطيافها وألوانها الأيديولوجية، وأشهرت إفلاسها السياسي والفكري والأخلاقي، والتي باتت جزءاً من المشكلة، ولن تكون بأي حال جزءاً من الحلّ، فصارت عقبةً كأداء أمام مستقبل الوطن، بعدما أهدرت فرصة تاريخية للتحوّل الديمقراطي، ما يفرض عليها أن تتوارى وتختفي من صدارة المشهد، وتذهب إلى مكانها الأليق: متحف التاريخ.