29 سبتمبر 2017
في أسبوع رحيل عرفات
وصلتُ وصديقي المصور، خالد بلخيرية، بالطائرة من تونس عبر إسطنبول إلى عمّان، ثم عبرنا جسر الملك حسين، وهدفنا الوصول إلى رام الله، قبل وصول المروحية التي تقل جثمان الرئيس ياسر عرفات، في رحلته الأخيرة إلى المقاطعة. لم تكن رحلتنا سهلة، فجيش الاحتلال كثّف حواجزه المعيقة لحركة الناس المتوجهين من مختلف مناطق الضفة إلى رام الله، للمشاركة في تشييع زعيمهم الذي كان رحيله فاجعاً للجميع. كنا قبل أيام من ذلك اليوم الفلسطيني الحزين في باريس، نصور حكاية اغتيال محمود الهمشري وقبره، ونجري مقابلة مع أرملته الفرنسية، ماري كلود همشري. كان عرفات يصارع الحياة في مستشفى فرنسي، ولم أكن أحسب أنه سيموت، وهو الذي نجا من الموت مراراً، وربما في حسباني ذلك كنت أنفي فكرة موته، ولا أعترف بها. وصلنا إلى رام الله، مع وصول آلاف الفلسطينيين الزاحفين نحو المقاطعة. كنا نريد أن نصوّر الجنازة والقبر والغياب والحزن والخسارة.
دفن الرئيس عرفات في الحادي عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2004، وكان عيد الفطر في الثالث عشر من الشهر نفسه، فماتت كل حركة في شوارع تلك المدينة الصغيرة، باستثناء الحركة نحو المقاطعة، مقام عرفات الأخير في حياته وموته. نمنا أسبوعاً في قرية سردا القريبة من رام الله، عند صديقي حسن البطل، وأمضينا ليالي ذلك الأسبوع في ساحة المقاطعة مع المئات حول قبر عرفات، نتحدث ونصور ونصمت، ونراقب الفتية يشعلون الشموع حول القبر، وربما فكّرنا، في بعض اللحظات، أن الغياب ليس غياباً أبدياً، فربما قام عرفات من موته، فقد اعتاد محبوه على مفاجآته غير المتوقعة.
كان رحيل عرفات وعطلة عيد الفطر لذلك العام سبباً لإغلاق المدينة وحركة التجارة، عدا بعض حوانيت الحلويات التي نشطت، لأن المواطنين لم يقوموا بصناعة كعك العيد كما هي عادتهم، حداداً على عرفات. كانت عجوز فلسطينية، بلباسها المطرز وتجاعيد وجهها كزيتونة عتيقة، لا تغادر المقاطعة. تجلس إلى جوار القبر، وتتحدث مع صاحبه، لعله يقوم قومة الحيّ، وكنا نحترم حزنها، فلا نتحدث معها، ولا نسألها عمّا تقول للغائب. في ذلك الأسبوع، قضينا على ما كان مخزوناً في ثلاجة حسن البطل من أطعمة ولحوم، ولم يعد هناك ما يمكن طبخه، والمطاعم مغلقة، فكان علينا أن نتدبر ما نأكله ثلاثتنا، فلجأنا الى دكان قرية سردا الذي لم يكن عنده سوى علب اللحم المحفوظ المملح. كان حسن البطل يكره اللحم المحفوظ، لأنه يذكّره بطعام اللاجئين في بدايات اللجوء في سورية الموزع من وكالة الغوث. كان قد ذكر لي ذلك، في رحلة سابقة إلى رام الله، لكننا، في أسبوع رحيل عرفات، لم نجد ما نأكله سوى اللحم المحفوظ، وكان شهياً عندما تطبخه مع البصل والبيض إذا توفر. واضطر حسن البطل أن يعترف بقدرة اللاجئين على التدبير، كي لا يعانوا من الجوع.
ونحن نصوّر قبر عرفات، والفتية الفلسطينيون يحيطون به، جاءت إليّ ناشطة سلام إسرائيلية، تسألني عن الهدف من التصوير، فقلت لها إننا نصور فيلماً وثائقياً عن قبور فلسطينيين، لم يتمكن ذووهم من دفنهم في قراهم أو مدنهم الأصلية في فلسطين، والفيلم يتحدث عن قسوة حلم الفلسطيني في أن يدفن في وطنه، بدلاً من المنفى. الحلم الذي يعوّض خسارة المكان الأول في الواقع. لم تعجب الفكرة الناشطة السلمية، وقالت إنها لا تكترث أين تدفن بعد موتها، هنا أو في القدس أو في حيفا، أو في هنغاريا حيث وطنها الأصلي! قلت لها: يا عزيزتي، أنت تمتلكين ترف الاختيار في الواقع، ونحن لا نملك هذا الترف سوى في الحلم، طالما أننا نعيش صراعاً مع دولتك في الواقع وفي الحلم.
دفن الرئيس عرفات في الحادي عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2004، وكان عيد الفطر في الثالث عشر من الشهر نفسه، فماتت كل حركة في شوارع تلك المدينة الصغيرة، باستثناء الحركة نحو المقاطعة، مقام عرفات الأخير في حياته وموته. نمنا أسبوعاً في قرية سردا القريبة من رام الله، عند صديقي حسن البطل، وأمضينا ليالي ذلك الأسبوع في ساحة المقاطعة مع المئات حول قبر عرفات، نتحدث ونصور ونصمت، ونراقب الفتية يشعلون الشموع حول القبر، وربما فكّرنا، في بعض اللحظات، أن الغياب ليس غياباً أبدياً، فربما قام عرفات من موته، فقد اعتاد محبوه على مفاجآته غير المتوقعة.
كان رحيل عرفات وعطلة عيد الفطر لذلك العام سبباً لإغلاق المدينة وحركة التجارة، عدا بعض حوانيت الحلويات التي نشطت، لأن المواطنين لم يقوموا بصناعة كعك العيد كما هي عادتهم، حداداً على عرفات. كانت عجوز فلسطينية، بلباسها المطرز وتجاعيد وجهها كزيتونة عتيقة، لا تغادر المقاطعة. تجلس إلى جوار القبر، وتتحدث مع صاحبه، لعله يقوم قومة الحيّ، وكنا نحترم حزنها، فلا نتحدث معها، ولا نسألها عمّا تقول للغائب. في ذلك الأسبوع، قضينا على ما كان مخزوناً في ثلاجة حسن البطل من أطعمة ولحوم، ولم يعد هناك ما يمكن طبخه، والمطاعم مغلقة، فكان علينا أن نتدبر ما نأكله ثلاثتنا، فلجأنا الى دكان قرية سردا الذي لم يكن عنده سوى علب اللحم المحفوظ المملح. كان حسن البطل يكره اللحم المحفوظ، لأنه يذكّره بطعام اللاجئين في بدايات اللجوء في سورية الموزع من وكالة الغوث. كان قد ذكر لي ذلك، في رحلة سابقة إلى رام الله، لكننا، في أسبوع رحيل عرفات، لم نجد ما نأكله سوى اللحم المحفوظ، وكان شهياً عندما تطبخه مع البصل والبيض إذا توفر. واضطر حسن البطل أن يعترف بقدرة اللاجئين على التدبير، كي لا يعانوا من الجوع.
ونحن نصوّر قبر عرفات، والفتية الفلسطينيون يحيطون به، جاءت إليّ ناشطة سلام إسرائيلية، تسألني عن الهدف من التصوير، فقلت لها إننا نصور فيلماً وثائقياً عن قبور فلسطينيين، لم يتمكن ذووهم من دفنهم في قراهم أو مدنهم الأصلية في فلسطين، والفيلم يتحدث عن قسوة حلم الفلسطيني في أن يدفن في وطنه، بدلاً من المنفى. الحلم الذي يعوّض خسارة المكان الأول في الواقع. لم تعجب الفكرة الناشطة السلمية، وقالت إنها لا تكترث أين تدفن بعد موتها، هنا أو في القدس أو في حيفا، أو في هنغاريا حيث وطنها الأصلي! قلت لها: يا عزيزتي، أنت تمتلكين ترف الاختيار في الواقع، ونحن لا نملك هذا الترف سوى في الحلم، طالما أننا نعيش صراعاً مع دولتك في الواقع وفي الحلم.