مات فيديل كاسترو في هافانا مثلما أراد على الأرجح. مات بعدما كاد يفعل كل ما يمكن لأي زعيم سياسي "غير عادي" أن يفعله. وحده يدرك إن كان راضياً عن ما انتهى إليه حال كوبا التي ارتبط اسمها باسمه. لكن الأكيد أن الرجل، بسنواته التسعين، كتب تاريخاً كاملاً، لا لبلده فحسب، بل حجز لنفسه فصلاً رئيسياً في تاريخ العالم المعاصر، على الأقل ذلك الخاص بستة عقود كاملة.
كثيرون "يعبدونه"، وكثيرون يكرهونه كل الكره. لكن الأكيد أن الرجل ينتمي إلى صنف السياسيين التاريخيين من نوع عبد الناصر ولينين وكينيدي وعرفات ومانديلا وهو شي مينه... من رمز للشيوعية الثورية "النقية" إلى جوار تشي غيفارا، فالشيوعية "المؤسساتية" بعد رحيل غيفارا، فالحروب التي لا تنتهي داخل الحدود وخارجها لإرساء "نموذج" أراده خاصاً به، وتصفية بلده من كل معارضيه بشكل دموي، وتحدّي أكبر قوة في العالم على بعد عشرات الكيلومترت عن شواطئ ميامي، وتهديد العالم بحرب عالمية كانت حظوظها كبيرة (أزمة الصواريخ الكوبية)، فمشاكسة الاتحاد السوفييتي، وصنع جيل من السياسيين ينظرون إليه كمثال، قبل الانتقال إلى دفة الحكم عن بُعد، من خلال شقيقه راوول.
ويضاف إلى ذلك، الانقلاب على عزلة صنعها بنفسه لبلده تحت شعار "تحدي الإمبريالية"، والصمود في واحد من أطول أشكال الحصار الاقتصادي في التاريخ الحديث، قبل أن يفتح، وشقيقه، الحدود، ويصالحان "الشيطان الإمبريالي"، ويستقبلان الرئيس الأميركي باراك أوباما ويفتتحان السفارة الأميركية في هافانا 2015. ثم يعودان لإجراء تدريبات عسكرية "استعداداً لحكم دونالد ترامب"، بحسب النبأ الذي أعلن من هافانا فور الكشف عن نتائح الانتخابات الأميركية الرئاسية، في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
لا يُمكن اختصار "الرفيق" فيديل بثورة كوبية ناجحة، أو بمعاصرته أرنستو تشي غيفارا، فقط. كان كاسترو أقلّ مثالية وأكثر واقعية من تشي. ترك الرومانسية الثورية لغيره، وانصرف إلى رسم خريطة سياسية مغايرة لكل ما سبق، ولكل ما أتى لاحقاً، في كوبا وفي البيئة الأميركية الوسطى. كان يحلو له ترداد "يكفيني فخراً أنني أقمت الاشتراكية على فم الولايات المتحدة". أقامها، على الرغم من الحصار الأميركي للجزيرة. لكنه فعلها، ونجح في تحويل بلاده إلى مثال صادح لمحو الأمية ومجانية الطبابة.
لم يكن كاسترو قديساً، فقد ساهم في "تطهير" صفوف "الثورة" من كل رجال العهود السالفة. تحديداً عهد الرئيس السابق فولخانسيو باتيستا. فعلت الإعدامات فعلها، بالنسبة إلى الثوار الجدد.
كل من عارض كاسترو قُتل أو سكت أو هاجر.
كانت الطريقة الأنسب للثورة الوليدة في تكريس وجودها. مع ذلك، كان هناك أمر ما سينهي مسيرة طويلة: العلاقة مع غيفارا. كان غيفارا حالماً، أراد هافانا محطة من محطات أخرى، سعياً لـ"ثورة أممية".
أما كاسترو فاكتفى بكوبا. كان أقرب، وهو الإسباني الأصل، إلى ترسيخ "قوميته" الكوبية، بفعل مراقبته مسار أزمة الصواريخ الكوبية، التي كاد يتلقاها من الاتحاد السوفييتي في العام 1961. راقب بعقله كيف "تفاهم" الروس والأميركيون على عدم إشعال حرب عالمية ثالثة بسبب جزيرة لا تزيد مساحتها عن الـ110 آلاف كيلومتر مربّع، ولا تُشكّل أكثر من 1 في المائة من مساحة الولايات المتحدة، و0.1 في المائة من مساحة الاتحاد السوفييتي.
تصرّف كاسترو بواقعية. غادر غيفارا كوبا، في رحلة "مقاومة يسارية"، واستمرّ فيديل في هافانا، مانحاً الحرية لشقيقه راوول في السلطة. كان قريباً من الأضواء وبعيداً في الوقت عينه. يمكن أن يختفي لفترة طويلة، مكتفياً ببعض المقالات، الموقعة تحت اسم "تأملات فيديل"، كما يُمكن أن يتلو خطاباً لساعات طويلة، مكتوباً أو مرتجلاً، لكنه كشف في النهاية وصوله إلى استنتاج ربما متأخر قليلاً، وهو أن "الخُطَب يجب أن تكون قصيرة".
كان كاسترو ذكياً كفاية ليُصيغ "إعلان هافانا" بحسب أهواء ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، التي استقلّ فيها عدد هائل من الدول الآسيوية والأفريقية. كان منشغلاً بمتابعة مآل الثورة الإيرانية، والاجتياح السوفييتي لأفغانستان عام 1979. كان منتبهاً لـ"البينغ بونغ" الأميركية ـ الصينية عام 1971، ولتراجع الأميركيين في حرب فييتنام.
"لا أستطيع أن أفعل ذلك، فيديل"، تلك كانت كلمات "المرأة القاتلة"، التي وظّفتها الاستخبارات الأميركية لاغتيال كاسترو. لا تذكر السجلات أسباب تردد المرأة، التي كانت تستهدف اغتياله بحبوب مسممة داخل البوظة. لم تكن المحاولة الأولى من نوعها. في الواقع تعرّض الرجل لحوالي 360 محاولة اغتيال طيلة تاريخه المديد... أو هكذا يقال على الأقل، لم تنجح أي منها. فشل بعضها بفعل الصدفة، وبعضها الآخر بفعل فطنته.
دفعته "واقعيته"، إلى التخلّي عن دينه المسيحي، قبل أن ينهي العداء مع الفاتيكان بعد انهيار حركة "لاهوت التحرير"، فأفسح المجال لعودة العمل الكنسي إلى كوبا واستقبل البابا يوحنا بولس الثاني في كوبا، في يناير/كانون الثاني 1998، ثم البابا الحالي فرنسيس وحصل التطبيع الكامل للعلاقة مع الكنيسة.
لم يكن فيديل كاسترو مجرّد رئيس لدولة ما، بل كان فعلاً رئيساً غير عادي لدولة عادية. ترك أثره لدى العديد من يساريي العالم. كان يبدو قوياً للغاية، ولم تكن أخبار مرضه لتثير المخاوف، بل كانت أخباراً "عادية"... فكثيرون كانوا يظنون أن فكرة موت "الكوماندانتي" تبقى مجرد فرضية.