فوتوغرافيا ليلى العلوي... حفر في الذاكرة وآلامها

24 يناير 2020
توفيت باعتداء إرهابي في بوركينا فاسو عام 2016 (فيسبوك)
+ الخط -
تحتفل الذاكرة الفوتوغرافية المغربية باسم فني مميّز، ليلى العلوي (1982- 2016)، كإحدى الفنانات اللواتي ساهمنَ في ثورة التصوير وجعله في قلب الفن المعاصر، عوض التفكير في الفوتوغرافيا بمنأى عن المشاريع الفنية والجمالية التي ينبني ويشيد عليها الفن المعاصر في المغرب. وهو ما سيتيح لتجارب قليلة جداً، أن تخط لها مساراً فنياً ماتعاً تمزج فيه بين التشكيل والفوتوغرافيا أو حتى بالنسبة لتجارب أخرى كسرت من صنمية اللوحة المسندية صوب الفضاء المفتوح، لأن الصورة الفنية التشكيلية وحدها غير قادرة على التقاط الأشياء الصغيرة الممتدة عبر الزمان والمكان.

لكنّ فوتوغرافيا ليلى العلوي لها قدرة كبيرة على التقاط هذه النتوءات الصغيرة المنفلتة من مسرح التاريخ، من ثم العمل على التقاط هذا المرئي الذي تحوله إلى صور جامدة تؤرخ من خلالها للمشهد وحيثياته الطبيعية من جبال وسهول وتضاريس، وأيضاً البشرية بما يتصل بها من أجساد وطرق العيش والسحنات والألبسة، مكتسيةً معها هنا شرعية في تأريخ التاريخ، بعنفه وحساسيته وحرارته، في مقابل الصورة التشكيلية التي تعمل على دفع الجسد إلى التعبير عن قلقه وتمظهراته الحسية، لكن دون التقيد بنقل الواقع بأشلائه المنفلتة.

ساعد هذا ليلى العلوي على تشرّب الفن الفوتوغرافي، فبرعت فيه من خلال دراستها له في نيويورك ثم دراسة العلوم الاجتماعية لاحقاً، ما ساعدها أيضاً على الجمع بين قوة التصوير وتقنياته وحصافة الحفر في الذاكرة والهوية الثقافية المغربية والأفريقية وما يرتبط بها من أسئلة الهجرة والغربة واللجوء، بعد تنقلها الدائم بين مراكش وباريس ونيويورك ثم بيروت ومعرضها الشهير "المغاربة في بيروت" الذي يدخل ضمن سلسلتها ومشروعها الفوتوغرافي الكبير حول بورتريهات "المغاربة" الذي عرض بمختلق المؤسسات الثقافية والمتاحف العالمية، وهو مشروع استمدته الفنانة إبان نهاية دراستها وعودتها إلى المغرب.
من ثم، فإن السحر الذي تمارسه الفوتوغرافيا وفلسفتها التقنية، ساعد بشكل كبيرة الفنانة الفوتوغرافية المغربية - الفرنسية ليلى العلوي، التي تحل هذه الأيام ذكرى رحيلها من خلال إقامة أمسية من لدن المدرسة العليا للفنون البصرية بمراكش المغربية مساء يوم الثلاثاء 21 يناير/كانون الثاني 2020، بعد رحيلها المؤلم عام 2016 إثر اعتداء إرهابي في مدينة واغادوغو في بوركينا فاسو، على مقهى فندق "سبلونديدي"، خلال إنجاز مشروعها الفني الخاص بـ"منظمة العفو الدولية"، فتركت خلفها ريبرتواراً فوتوغرافياً كبيراً بحكم ترحالها الدائم بين الأماكن القصية من العالم، ما جعل من هذه الهوية الكوزموبوليتية تمنحها قوة الوقوف عند فتنة حضارة البحر الأبيض المتوسط وفهم طرق العيش والاختلاف الحضاري والهوياتي، الذي يرسم هذه الحضارة وتنوعها وإيقاعها المتباين، على الرغم من مرارة الغربة القاتلة التي كانت تشعر بها داخل المغرب بسبب التعامل معها كفرنسية أو في فرنسا كمغربية الأصل.
ما عاشته ليلى العلوي بين المغرب ولبنان وفرنسا حولته إلى الفوتوغرافيا، لذلك جاء مشروعها الفوتوغرافي "المغاربة" كفعل جمالي يترجم أحاسيسها الداخلية من خلال تمظهرات الآخر وما تعانيه بعض الشعوب الإثنية والأقلية داخل بلدان أخرى، مركزةً على مفاهيم الهجرة والوحدة والهوية والغربة والاختلاف الذي يطبع التجمعات البشرية داخل قُطْرٍ واحدٍ... كل هذا بنظرةٍ فنية متحررة من كل بعد غرائبي لمغرب آخر، حاول بعض المستشرقين منذ بدايات القرن العشرين فرضه سواء داخل كتبهم النظرية أو داخل بعض الفنون البصرية، كالسينما مثلاً.
تنقل لنا ليلى العلوي في "المغاربة" التفاصيل الصغيرة للشعوب وموروثها الحضاري من لباس ووشاح وقبعة وحلي أمازيغي وما يتصل بهما من تراث لامادّي. لكنّ حضور التراث في أعمالها الفوتوغرافية ليس تذويقاً أو مكملاً فنياً بقدر ما هو مفهوم يحتلّ مركز العمل الفوتوغرافي بأدوات جدّ معاصرة. كما أن تلقائية الصورة، تبدو واضحةً في ملامح وأعين الناس، بعد أن لجأت العلوي في عملها إلى استوديو متنقّل وسط الأسواق الشعبية المغربية، مع إدخال بعض اللمسات التقنية إلى الصورة من خلال المزيد من النور والحفاظ على خلفية العمل بالسواد. لهذا فإن استحضار التراث في أعمال العلوي هو علامة وجود عن حضارة وشعب واجتماع وغنى ثقافته الإفريقية والمتوسطية، بحكم الدور الكبير الذي لعبه المغرب في تاريخ البحر الأبيض المتوسط وتعاقب دول كثيرة عليه منذ الفترة القديمة إلى حدود القرن السابع عشر مع توطيد حكم الدولة العلوية، ما ساهم في خلق نوع من الانصهار والمثاقفة بين حضارته وباقي الحضارات الأخرى التي استوطنت كيانه لعقود.
تأخذ عملية توظيف التراث في أعمال العلوي بعداً تاريخياً وأنثروبولوجياً مركباً، تمتزج فيه أطياف قديمٍ معتقٍ في جرار الزمن، وحاضرٍ مأزومٍ مسلوبِ الهويةِ والمكانِ وموسومٍ بالترحال والشتات والنفي بكافة أشكاله السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو الوجه الآخر من مشروعها الفوتوغرافي حول العبور والهجرة والمنفى، وما تحدثه هذه المفاهيم من ارتباك في حياة البشر داخل أوطان أخرى، كأنها تحاول القبض عن حقيقة الإنسان الأفريقي وشقائه. ففي الوقت الذي تعتبر فيه القارة الأفريقية أغنى القارات في العالم، بسبب ما تحتوي عليه من مناجم للذهب، نرى يومياً خيراتها تنهب من لدن قوى إمبريالية جشعة، تزيد في تفقير الشعوب وتنشب حروباً أهلية لا تنتهي، ما يدفع بالعديد من الأفارقة، رجالاً ونساءً، شباباً وكهولاً، إلى الهجرة صوب بلدانٍ أخرى أكثر رحمة... وليلى العلوي تكشف في أعمالها عن هذا الاستصغار والألم الذي تعاني منه بعض الأقليات الأفريقية وحقّها في العيش الكريم من خلال بورتريهات لعدد كبير من هؤلاء المضطهدين والمنكوبين، كأنها تعيد حياة حميميّةً سلبت منهم عبر الفوتوغرافيا وبلغة فنية ووجوه صامتة، لكنها تبدو أكثر احتجاجاً وصراخاً عن مصير الإنسان وحقيقته الأنطولوجية في زمن الشتات واللجوء الذي يعاني منه اليوم.
دلالات