فلسفة الاعتراف بالمجهول

17 يناير 2017

(إسماعيل الشيخلي)

+ الخط -
تتعرّض الدولة الوطنية ومؤسساتها في الوطن العربي لما يشبه الحرب. هجوم شرس يقوم به متأثرّون بتياراتٍ فكرية، تُعرف بين المثقفين بمدرسة ما بعد الحداثة، حيث تتلخص الفكرة المحورية لهؤلاء في أن الدولة الوطنية التي شُيدت، بعد زوال الإمبراطوريات، وتوحيد الجماعة السياسية داخل حدود ثابتة، وهيمنة النمط الرأسمالي فرضت على الناس ثقافة خاصة.
وما الدولة هُنا إلا "غول" استحوذ على البشر، وفرض عليهم نمطاً معيشياً لم يكونوا يألفونه من قبل، فتولد لدى الفرد شعور بالاغتراب، وبضرورة التمرّد عليها. تارة بالعيش منعزلاً عنها، وأخرى عبر إشعال حروبٍ وصراعاتٍ إثنيةٍ وطائفيةٍ أزلية، لا يمكن الفكاك منها، إلا بزوال فكرة سلطة الدولة على البشر. قد ينظر بعضهم، باستخفافٍ لهذه النقاشات الفكرية، وقد يعتبرها آخرون شأناً نخبوياً، ليس له صلة حقيقية بالواقع المعاش اليوم، وإن الدولة الوطنية باقية ما بقي الإنسان على وجه الأرض.
لكن، لمن يفحص أدبيات الجماعات المذهبية الانفصالية، والحركات الجهادية، على سبيل المثال، يجد تقاطعاتٍ كثيرة بين أفكار هؤلاء المنظّرين الذين تخرّجوا من أفضل الجامعات الغربية وتنظيم داعش وأخواته، وهو التقاءٌ عجيب، لكنه مفهومٌ، على الأقل، في حالة الربط بين نتائج ما تؤدي إليه هذه المقدمات الفكرية والواقع المطبق على الأرض التي يحكمها هؤلاء. لا فرق، إذاً، بين من يصرّح بما يريده مباشرة ومن يقولها مداورةً، بين من يسعى إلى كسب كل الصفات الأكاديمية الممكنة التي أتت نتيجة للحداثة من جهةٍ والهوس بالعودة بالناس إلى الماضي من جهة ثانية.
تُختزل كل موبقات الحداثة في التحريض على الدولة، ليس لصالح نموذجٍ أفضل منها، بقدر ما هو مدّ الجماعات الما قبل دولتية بالعدّة الإيديولوجية اللازمة. مبرّر هؤلاء أن الدولة الوطنية أدت إلى ازدهار الماديات على حساب المعنويات، وقادت نحو تفكّك الأسر، والجماعات التقليدية، لصالح فردانية أنانية مقيتة، ولصالح دولة "متغوّلة" في خصوصيات الأفراد، ومتحكّمة في خياراتهم وسلوكياتهم. أما المطلوب منا، فالرجوع إلى الأصل. أي العودة إلى الجماعات الأولية، وإطلاق العنان لها لكي تمارس دورها، وتحمي أفرادها من "تغوّل الدولة"، وهي غالباً، في وطننا العربي، طوائف أو قبائل. يستدل على هذا الكلام بأن الجماعات الأولية قادرةٌ على ترتيب أمورها بنفسها، وتنظيم التدافع على "المنافع العامة" بأخلاقياتها وقيمها الخاصة، ومن دون الحاجة لوجود ناظم، يسمّى اليوم الدولة القومية أو الوطنية. بل إن الأخيرة
هي التي تسبّبت بمؤسّساتها، وأجهزتها المنحازة لثقافة الأغلبية، أو للثقافة المتغلبة، لاضمحلال الأخلاق والقيم، ولنزاعاتٍ وحروب قومية وطائفية، نشاهدها اليوم في أكثر من ساحةٍ. ولكي نستعيد طمأنينتنا المفقودة، لا مفرّ من شطب الدولة من قاموسنا السياسي، وعدم التسليم بها حالة نهائية.
يختلف البحث للجماعات الأولية عن اعتراف، في كل الأحوال، عن سحب صلاحيات الدولة أو بعضها، وإهدائها إلى هذه الجماعة، أو تلك، فهذا ضمنياً ليس تحجيماً للدولة لصالح الحريات العامة والفردية، إنما ستنتج عنه سلطةٌ جديدةٌ للجماعة الأولية على أفرادها، ولزعمائها وحاشيتهم والمنتفعين منهم، كما ستوجِد منهم منافساً لسلطة الدولة. لكن، من داخلها، وهذه السيطرة، غالباً، أقسى على مستوى الحريات الفردية والاجتماعية من الثقافة التي تفرضها مؤسسات الدولة الوطنية. يتّضح هذا المثال أكثر، عند العودة إلى دولةٍ كباكستان أو الأردن، تلك التي تكثر فيها قضايا تعرف بقضايا "الشرف"، حيث ينفذ أفراد الجماعة حكم "القصاص" على من يثبت بحقه "تلطيخ" شرف القبيلة أو العشيرة دون الحاجة لمحاكمة أو لدفاع عن المتهم.
لذا، من فضائل الدولة الحديثة لجم جماح الجماعات الأولية، وتقليم أظافر نفوذ زعمائها ومنع وصايتهم على أفرادها، ومنع ابتزاز أعضائها بحجة حمايتهم من الآخر، بحيث لا يصبح الفرد مواطناً له حقوق، وعليه واجبات، بل مجنداً في قبيلةٍ أو طائفة. على عكس الدولة الوطنية التي يخضع مواطنوها لقانونٍ عام، وتشرف على الموارد الطبيعية، وتنظم التدافع على "المنافع العامة"، فتحكم بين المواطنين بمستوى معقولٍ من العدالة، وإنْ كانت مستويات العدالة تختلف باختلاف السياسات والقوانين التي تضعها النخبة الحاكمة. إذن، ليس المراد من الاعتراف صيانة حق الفرد والجماعة في الاختلاف، وفكّ النازع الطائفي، وعدم السماح للآخرين باحتقار ثقافة الجماعات الصغيرة، والحؤول دون وجود ثقافةٍ محدّدةٍ مهيمنةٍ داخل الدولة. وبالتالي، حماية حقوق الأقليات الثقافية، بحيث لا توجِد استراتيجية الدولة فضاءً مشتعلاً بالحروب الأهلية.
وجود دولة ذات مؤسساتٍ معقلنة، يمكن توقع تصرفاتها، وتتعامل مع المواطنين كأفراد متساوين، أفضل من مجهول الجماعة الأولية، ونزوات زعمائها الذين يبحثون عن مضاعفة غنائمهم، ولو على حساب السلم الأهلي.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"