ظهرت الساحة الثقافية في فلسطين هذا العام أكثر هشاشة، مع تضاعف الانحدار في الواقع السياسي والمعيشي تحت الاحتلال. لكن التحديات الجديدة القديمة أثارت الكثير من الأسئلة حول متانة "جبهة" الثقافة في فلسطين، وقدرتها على إحداث تغيير ملموس. إذ إن المأمول أصلاً في هزّات مثل هذه، أن تكون الثقافة "الجبهة" الأولى في مواجهتها. هذا الأمر يحيلنا مع انقضاء العام، إلى مجموعة من الأسئلة، التي تبتغي ضمن ما تبتغيه إعادة تقييم الساحة الثقافية الفلسطينية (أفراداً ومؤسسات)، وتعرية الاستكانة والفشل اللذين وسماها.
لعلّ نقاش "حصاد الثقافة" في انزياحه المستهلَك في معظم الأوقات، إلى إغراء إحصاء وعدّ الأنشطة الثقافية التي كانت بالفعل حاضرة في ساحة فلسطين الثقافية، لم يعد كافياً أمام الإشكاليات الكبرى التي لم تجد حتى اللحظة الأجوبة اللازمة.
من ذلك مثلاً، أزمة منع رواية عبّاد يحيى الأخيرة "جريمة في رام الله" من التداول العام، وسحب جميع نسخها من السوق، عطفاً على اعتقال موزعها المحلّي، وإصدار مذكرة اعتقال بحق الكاتب، في قرار كان من المتوقّع -في وسط غير الوسط الثقافي الفلسطيني- أن يكون ذا جدل، وأن يترافق مع حملات تضامن واسعة، إلا أن كثيراً من المؤسسات الثقافية الفلسطينية وكثيراً من المثقفين، أظهروا تردّداً ملحوظاً في اتخاذ موقف، في حين أخذ كثير منهم مواقف متماهية مع القرار، بحجة أن الرواية قد ذهبت إلى مضامين لا ينبغي الانشغال بها، على غرارالسياقات السياسية والاجتماعية للجنس.
وقد رأى مراقبون أن استجابة الوسط الثقافي للخطوة، أظهرت فيما أظهرت، علاقة لا انفكاك سهلاً منها، بين المؤسستين الثقافية والسياسية في فلسطين المحتلة عام 1967. لأشهر طويلة بقي الروائي عبّاد يحيى خارج البلاد إلى أن سُوّيت القضية بضغط من "نادي القلم الدولي" الذي تدخل في الأمر مع "النائب العام الفلسطيني".
ليس بعيداً عن ذلك، صدر قرار "مراقبة المضامين الثقافية"، الذي كان صفة العام بامتياز، حيث سنّت "السلطة الفلسطينية" قوانين جديدة لتشريع مراقبة المنتج الصحافي والإعلامي الفلسطيني، ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، تحت مسمى "قانون الجرائم الإلكترونية"، بل وشرعت باستخدام هذه القوانين فعلاً، ما أسفر عن اعتقال ناشطين وكتّاب. فيما كانت ردة الفعل الشعبية والثقافية باهتة مرة أخرى، واقتصرت الاحتجاجات ضد هذه القرارات، على سجالات قانونية لم تحدث فرقاً ثقافياً، وعلى آراء سياسية معارضة، من خارج الوسط الثقافي غالباً.
فيما يخصّ الحديث المتكرّر عن مركزية رام الله في كافة الأحداث والمناسبات الثقافية، لم تُحدِث السنة الفائتة تغييراً واضحاً بهذا الشأن، إذ استضافت المدينة "المركز" كافة الأنشطة الأساسية تقريباً. واستمر تهميش الأطراف، بالتوازي مع تهميش الريف والمخيّم. ناهيك عن سياسة التكريس المستمرة لأسماء كتّاب دون غيرهم.
في ذات السياق، جاء "ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية" الذي عقد في رام الله، مستضيفاً في جلسات نقاشه كتّاباً وأدباء وناشرين فلسطينيين وعرباً، ليفتح بوابة الأسئلة حول مقتضيات الثقافة والمناسباتية ومواضيع انشغالاتها هذه الأيام. لم يقتصر التكرار كما رأى متابعون للملتقى على الأسماء، بل طاول مواضيعه التي لم تخرج عن المألوف أيضاً، والأهم، أن فلسطينية الملتقى، أو الإشارة إلى انعقاده في فلسطين، لم تكن ظاهرة أبداً، إلا في مقدمات بلاغية في أحسن الأحوال. وكان محور واحد من محاور الملتقى متعلقاً بالمكان الذي يقام فيه، وتحدّث فيه روائيون فلسطينيون عن الذاكرة والمكان، فيما بدا أنه إصرار على الدور النوستالجي المفترض للأدب الفلسطيني، حتى في العيون العربية.
ورغم مركزية "الضفة الغربية" في النشاط الثقافي الفلسطيني، إلا أن الساحة الثقافية في فلسطين المحتلة عام 1948 ليست ببعيدة، وباتت فعاليات كثيرة تتحرّك متخطية حدود الاحتلال، فـ"احتفالية فلسطين للأدب" التي سجّلت في 2017 سنتها العاشرة، أصبحت موعداً سنوياً في حيفا، إلى جانب المدن الفلسطينية الأخرى. هذا العام أفردت "احتفالية فلسطين" مساحة في برنامجها الذي شارك فيه كتّاب عالميون وفلسطينيون للتأمل في مسيرتها وفي معنى إقامة مهرجان ثقافي، كما قررت الاحتفالية أن تأخذ إجازة لمدة سنة على أمل أن تستأنف نشاطها في عام 2019.
من جهة أخرى، كسرت إقامة "مهرجان سيت - أصوات حية من المتوسط"، لأول مرة في رام الله، بعض رتابة المناسبات المتكرّرة سنوياً، وهو مهرجان يقام منذ عشرين سنة في مدينة "سيت" الفرنسية ومدن أخرى، ويجمع شعراء متنوّعين من ثقافات ضفاف المتوسط. شارك في المهرجان شعراء فلسطينيون وعرب وآخرون من بلدان مختلفة، في الوقت الذي أثار اختيار الأسماء التي شاركت، حفيظة البعض، حول آليات اختيار الأسماء المشاركة، الأمر الذي يطرح التساؤل كل سنة عن مبرّر حضورها، في ظل غيابها إلا عن مناسبات من هذا النوع، واختفائها من لوائح الناشرين، وفي حين لم يسمع القراء منذ وقت غير قصير، إلا عن إصدارات قليلة جديّة، أو غير جدية أحياناً، لمؤسسات ثقافية تعتمد النشر الموسمي الذي يعيد إنتاج شكل جديد من الزبائنية والمصلحة.
ثمة ما يمكن الركون إليه في الإضاءة على المشهد الذي يبدو حدوث انفراج على مستويات رؤيته التي تقاوم محاولات التعتيم والقهر الاحتلالية، مستبعداً في قريبه العاجل والبعيد. فعلى سبيل المثال أثار خبر تحويل "قصر الرئاسة" الجديد شمالي رام الله إلى مكتبة وطنية بعض التفاؤل في أوساط الثقافة الفلسطينية، على أمل أن تدفع مشاريع كهذه المنجز الثقافي إلى مستويات جديدة في إطار استرجاع الأرشيف الوطني وتنظيمه وحفظه والاستثمار فيه، لكن الإعلان أبقى أبواب الأسئلة مشرعة حول مواعيد إطلاق العمل في "المكتبة الوطنية" ومدى جدية المؤسسة الفتية والجهات القائمة عليها.
__________________________
تكحيل القدس بمرود أوسلو
ثالثة أثافي السنة الثقافية في فلسطين هي البيان الذي أصدره القائمون على "متحف محمود درويش" في رام الله ويدعو المثقفين العرب إلى التوقيع عليه ضد "قرار ترامب". المفارقة أن البيان يريد أن يسحب الموقف العربي من القدس إلى لغة أوسلو ومنطقها، فهي بحسب البيان -الذي أثار استنكاراً واسعاً- "جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 وينطبق عليها قرارا مجلس الأمن 242 و338"! وكأن الاحتلال لم يبدأ عام 1948.