اللحظة الثانية أتت حين خلع ثروت عكاشة (1921 – 2012) بزته العسكرية وترأس وزارة الثقافة في عهد عبد الناصر مرّات عدّة، لينشئ قصور الثقافة في المدن والقرى البعيدة، ويصدر سلاسل الكتب في الفكر والمسرح والآداب المترجمة، ومؤسسات أكاديمية في التشكيل والمسرح والسينما.
ما بين المشروعين وما بعدهما هو مجرد امتداد لهما أو تراجع عنهما، حيث السلطة تميّز حدودها في التعامل مع المثقف الذي بدوره عرف حدوده في النقد والمحاسبة، وكلما حدث ما يعكّر العلاقة عادت لتوضع في نصابها المعهود.
منذ توقيع معاهدة السلام عام 1978، تواصل دعم الثقافة لتغطية انحسار دور مصر الإقليمي وتراجع اقتصادها، لكن المفارقة اليوم أنه يجري تفريغها من كل محتوى وشكل ولا يطلب منها سوى دعم النظام وتبرير أخطائه دون مقابل يُذكر.
في هذا السياق، كان 2017، فجرى اعتقال عشرات الكتّاب الذين أعلنوا رفضهم لقرار البرلمان المصري بالموافقة على "اتفاقية تيران وصنافير" التي تنصّ على نقل تبعية الجزيرتين إلى السعودية، والتزم "اتحاد كتّاب مصر" الصمت تجاه القرار، ولم يتضامن مع أعضائه المعتقلين أو يطالب بالإفراج عنهم، وهو أمر تكرّر في حوادث سابقة حُكم خلالها بالسجن على كتّاب لأسباب مختلفة.
نهاية السنة، بدأ مجلس الشعب المصري مناقشة مشروع قانون يجرّم إهانة الرموز التاريخية، ما اعتبره مراقبون أنه تشريع سيحوّل للسلطات معاقبة من تريد في حال إقراره في ظل عدم تعريف هذه الرموز.
تصدّر الإعلام بيان وقّع عليها مئات المثقفين مطالبين بإقالة وزير الثقافة حلمي النمنم عن تقصيره في إدارة ملفات عدّة مثل "العام المصري الصيني"، واختياراته للقيادات في قطاعات الوزارة المختلفة، وتجميد الأنشطة في أكثر من 70 % من المواقع الثقافية.
وأُعلن أيضاً عن تخفيض ميزانية الوزارة التي يذهب أكثر من 90% من نفقاتها إلى الرواتب والأجور، حيث يوجد حوالي 34 ألف موظفها أتوا إليها عبر التعيينات العشوائية والمحسوبيات، رغم أن حصة المواطن المصري من الإنفاق على الثقافة لا تتجاوز جنيه ونصف سنوياً، بحسب إحصائيات الوزارة نفسها.
من جهة أخرى، طغت فعاليات محلية على تظاهرة "الأقصر عاصمة الثقافة العربية 2017"، وتكرّرت الانتقادات بافتقاد المدينة للبنية التحتية، الذي يقف عائقاً أمام إظهار "دورها الحضاري المتموضع بين الإرث الفرعوني والحضور العربي"، وفق بيان المنظّمين.
وحلّ معرض الكتاب بداية السنة مع اعتصام العاملين في "دار الكتب والوثائق القومية" احتجاجاً على تأخّر صرف مستحقّاتهم المالية منذ شهور، وجاءت الانتقادات لشعار دورته الثامنة والأربعين "الشباب وثقافة المستقبل"، بينما يُحرم الشباب أنفسهم الذين يعملون في المؤسسة الثقافية الرسمية من أجورهم التي يستحقّونها عن جهد مبذول من أجل تظاهرة تناقش واقعهم وتدّعي العمل من أجله.
بالعودة إلى الطهطاوي، فإن الثقافة كانت جزءاً من رؤية دولة تنافس أوروبا في نهضتها، ومع عكاشة أصبحت جزءاً من رؤية دولة تسعى لقيادة العالم العربي؛ بينما هي اليوم غائبة لغياب المشروع السياسي أساساً.