19 أكتوبر 2019
فرنسا... وسحب الجنسية
بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت باريس وضاحيتها الشمالية، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، في خطابه أمام البرلمان الفرنسي (بغرفتيه العليا والسفلى) أن سحب الجنسية من الفرنسيين مزدوجي الجنسية، بسبب أعمال إرهابية سيكون ضمن حزمة الإجراءات التي ستتخذ لمحاربة الإرهاب. ليس الإجراء جديداً لأن هناك عدة حالات لسحب الجنسية سجلت، في السنوات الأخيرة، بسبب التورط في أعمال إرهابية. ولكن الجديد يكمن، هذه المرة، في أن نزعها من فرنسيين ولدوا في فرنسا أو خارجها (أي فرنسي المولد والمجنس)، شريطة أن يكونوا من مزدوجي الجنسية.
الواضح أن اليسار الحاكم وضع نفسه في ورطة سياسية بالتسرع في الإعلان عن هذا الإجراء، كأحد التدابير المزمع اتخاذها في إطار تعديل الدستور المرتقب. وسرعان ما تفطن إلى ذلك، بالنظر إلى زعزعة هذا الإجراء منظومة القيم التي تقوم عليها الجمهورية. تقول الحكومة، مراراً وتكراراً، إن الإرهابيين استهدفوا فرنسا بسبب القيم التي تحملها وتدافع عنها، وعليها ألا تحيد عنها، إلا أنها على الرغم من ذلك أقرته، بعد حوالي شهر من التردد والتراجع. حيث اتضح أنها تحضر الرأي العام للتراجع عن هذا الإجراء، لتعارضه مع قيم الجمهورية، لا سيما مبدأ حق الإقليم (من يولد في فرنسا يعد فرنسياً) على عكس مبدأ حق الدم المعمول في دول أخرى، مثل ألمانيا، فضلاً عن إنشائه فئتين من المواطنين الفرنسيين، إلا أنها فاجأت الجميع بالتأكيد، أمس، على الاحتفاظ به ضمن حزمة التعديلات المقبلة. فما السبب؟
مع نتائج الانتخابات الجهوية، وسعي الحكومة إلى التعاون مع بعض ممثلي اليمين الجمهوري، لوقف زحف اليمين المتطرف. ولكن، أيضاً لتعويض خسارتها جزءاً من اليسار وكل اليسار المتطرف، اتضح أن الحكومة ستنهي ترددها بإقرار مبدأ سحب الجنسية، على الرغم من معارضة بعض وزرائها وقطاعات من اليسار الحاكم، ناهيك عن اليسار غير الحاكم. وما يؤكد على أن الإبقاء على هذا الإجراء في التعديل الدستوري المقبل محاولة لاستمالة اليمين الجمهوري هو اشتراط الأخير الإبقاء على التدبير للتصويت على التعديل الدستوري، مع العلم أن الأغلبية الحاكمة بحاجة إلى أصوات من اليمين الجمهوري، لتمرير هذا التعديل الذي قرّر بعض نواب الأغلبية الحاكمة، وبعض نواب اليسار غير الحاكم، عدم التصويت عليه، بسبب تضمنه سحب الجنسية، أما اليمين المتطرف فهو يؤيد هذا المبدأ الذي طالما طالب به.
بغض النظر عن تناقضات وتردد الرئيس هولاند وحكومته، ومقتضيات اللعبة السياسية في بعهدها الانتخابي. يثير هذا المبدأ إشكاليات عدة.
أولاً، يتعارض وقيم الجمهورية، فالعمل به يعني أن الجماعات الإرهابية حققت مبتغاها بإجبار
فرنسا على العدول عن بعض قيمها. ومن هنا فصاعداً، يصعب على الحكومة الفرنسية التأكيد على المنظومة القيمية في إطار محاربة الإرهاب، ما دامت هذه المنظومة تتآكل، بفعل هذا الأخير.
ثانياً، يميز هذا المبدأ بين فئتين من المواطنين الفرنسيين: الذين يحملون الجنسية الفرنسية فقط والذين يحملون الأخيرة، فضلاً عن جنسية دولة أخرى. ولنفترض أن شخصين تورطا في عملية إرهابية على التراب الفرنسي، يحمل أحدهما الجنسية الفرنسية فقط بينما يحمل الآخر الجنسية الفرنسية (بغض النظر عن كونه فرنسي المولد أو مجنسا) وجنسية دولة أخرى، فكيف يكون الحكم عادلاً في حقهما إن احتفظ الأول بجنسيته الفرنسية (لأن مبدأ نزع الجنسية لا ينسحب على من له الجنسية الفرنسية وحدها)، فيما يفقد الثاني جنسيته؟ ثم ماذا لو التفت الجماعات الإرهابية على هذا المبدأ، بالاعتماد على أشخاص لا يحملون إلا الجنسية الفرنسية، من شباب مسلم أو من معتنقي الإسلام.
ثالثاً، تقر الحكومة بأن هذا الإجراء رمزي، ولن يساهم في محاربة الإرهاب. لكن، على الرغم من ذلك تبنته. وهذا دلالة على نزولها عند رغبة اليمين الجمهوري، وربما حتى اليمين المتطرف.
رابعاً، تطبيق هذا المبدأ صعب عملياً، فمثلاً في حالات سابقة لم تتمكن الحكومة من طرد فرنسيين مزدوجي الجنسية، بعد سحب الجنسية منهم، إلى بلدانهم الأصلية، بسبب عمل الأخيرة بحكم الإعدام. ومع تعميم مبدأ سحب الجنسية، ستزداد مثل هذه الحالات، ما يفرغ هذه الآلية من محتواها، ويجعلها غير قابلة للتطبيق في كل الحالات.
خامساً، يقوم الإقرار بمثل هذا المبدأ على عقلانيةٍ لا يؤمن بها المنخرطون في الأعمال الإرهابية. فكيف يمكن ردع جهاديين فرنسيين أحرقوا جوازات سفرهم الفرنسية أمام الكاميرات بأنه في حال تورطهم في أعمال إرهابية على التراب الفرنسي، أو ضد المصالح الفرنسية، ستُسحب منهم جنسيتهم؟ الظاهرة الإرهابية عابرة للأوطان، ولا تعترف لا بالحدود ولا بالجنسية. فهؤلاء يمقتون الجنسية الفرنسية التي يحملونها، وإلا ما هاجموا المجتمع الذي ولدوا وترعرعوا فيها وإليه ينتمون. ومن ثم فسحب الجنسية من أشخاص يرفضونها أصلاً، ويوظفونها لاقتراف جرائمهم، لن يغير من الوضع شيئاً. وبالتالي، لا يقرّ هؤلاء تماماً بالعقلانية التي يستند إليها مبدأ سحب الجنسية.
سادساً، يأتي المبدأ إجراءً قانونياً بعد الضرر، وليس قبله، أي لتجنبه. فأنجع الأساليب في محاربة الإرهاب هي الأساليب الوقائية وليس العلاجية، مع العلم أن سحب الجنسية ليس آلية علاجية على الإطلاق. الحقيقة أن إحدى نقاط قوة الإرهابيين الذين يحملون الجنسية الفرنسية، والجنسيات الأوروبية عموماً، قدرتهم على التنقل بحرية، وغالباً بدون تأشيرة. ومن هنا، الوقاية الاستخباراتية، وحتى الاجتماعية، هي الأنجع والأنسب.
الواضح أن اليسار الحاكم وضع نفسه في ورطة سياسية بالتسرع في الإعلان عن هذا الإجراء، كأحد التدابير المزمع اتخاذها في إطار تعديل الدستور المرتقب. وسرعان ما تفطن إلى ذلك، بالنظر إلى زعزعة هذا الإجراء منظومة القيم التي تقوم عليها الجمهورية. تقول الحكومة، مراراً وتكراراً، إن الإرهابيين استهدفوا فرنسا بسبب القيم التي تحملها وتدافع عنها، وعليها ألا تحيد عنها، إلا أنها على الرغم من ذلك أقرته، بعد حوالي شهر من التردد والتراجع. حيث اتضح أنها تحضر الرأي العام للتراجع عن هذا الإجراء، لتعارضه مع قيم الجمهورية، لا سيما مبدأ حق الإقليم (من يولد في فرنسا يعد فرنسياً) على عكس مبدأ حق الدم المعمول في دول أخرى، مثل ألمانيا، فضلاً عن إنشائه فئتين من المواطنين الفرنسيين، إلا أنها فاجأت الجميع بالتأكيد، أمس، على الاحتفاظ به ضمن حزمة التعديلات المقبلة. فما السبب؟
مع نتائج الانتخابات الجهوية، وسعي الحكومة إلى التعاون مع بعض ممثلي اليمين الجمهوري، لوقف زحف اليمين المتطرف. ولكن، أيضاً لتعويض خسارتها جزءاً من اليسار وكل اليسار المتطرف، اتضح أن الحكومة ستنهي ترددها بإقرار مبدأ سحب الجنسية، على الرغم من معارضة بعض وزرائها وقطاعات من اليسار الحاكم، ناهيك عن اليسار غير الحاكم. وما يؤكد على أن الإبقاء على هذا الإجراء في التعديل الدستوري المقبل محاولة لاستمالة اليمين الجمهوري هو اشتراط الأخير الإبقاء على التدبير للتصويت على التعديل الدستوري، مع العلم أن الأغلبية الحاكمة بحاجة إلى أصوات من اليمين الجمهوري، لتمرير هذا التعديل الذي قرّر بعض نواب الأغلبية الحاكمة، وبعض نواب اليسار غير الحاكم، عدم التصويت عليه، بسبب تضمنه سحب الجنسية، أما اليمين المتطرف فهو يؤيد هذا المبدأ الذي طالما طالب به.
بغض النظر عن تناقضات وتردد الرئيس هولاند وحكومته، ومقتضيات اللعبة السياسية في بعهدها الانتخابي. يثير هذا المبدأ إشكاليات عدة.
أولاً، يتعارض وقيم الجمهورية، فالعمل به يعني أن الجماعات الإرهابية حققت مبتغاها بإجبار
ثانياً، يميز هذا المبدأ بين فئتين من المواطنين الفرنسيين: الذين يحملون الجنسية الفرنسية فقط والذين يحملون الأخيرة، فضلاً عن جنسية دولة أخرى. ولنفترض أن شخصين تورطا في عملية إرهابية على التراب الفرنسي، يحمل أحدهما الجنسية الفرنسية فقط بينما يحمل الآخر الجنسية الفرنسية (بغض النظر عن كونه فرنسي المولد أو مجنسا) وجنسية دولة أخرى، فكيف يكون الحكم عادلاً في حقهما إن احتفظ الأول بجنسيته الفرنسية (لأن مبدأ نزع الجنسية لا ينسحب على من له الجنسية الفرنسية وحدها)، فيما يفقد الثاني جنسيته؟ ثم ماذا لو التفت الجماعات الإرهابية على هذا المبدأ، بالاعتماد على أشخاص لا يحملون إلا الجنسية الفرنسية، من شباب مسلم أو من معتنقي الإسلام.
ثالثاً، تقر الحكومة بأن هذا الإجراء رمزي، ولن يساهم في محاربة الإرهاب. لكن، على الرغم من ذلك تبنته. وهذا دلالة على نزولها عند رغبة اليمين الجمهوري، وربما حتى اليمين المتطرف.
رابعاً، تطبيق هذا المبدأ صعب عملياً، فمثلاً في حالات سابقة لم تتمكن الحكومة من طرد فرنسيين مزدوجي الجنسية، بعد سحب الجنسية منهم، إلى بلدانهم الأصلية، بسبب عمل الأخيرة بحكم الإعدام. ومع تعميم مبدأ سحب الجنسية، ستزداد مثل هذه الحالات، ما يفرغ هذه الآلية من محتواها، ويجعلها غير قابلة للتطبيق في كل الحالات.
خامساً، يقوم الإقرار بمثل هذا المبدأ على عقلانيةٍ لا يؤمن بها المنخرطون في الأعمال الإرهابية. فكيف يمكن ردع جهاديين فرنسيين أحرقوا جوازات سفرهم الفرنسية أمام الكاميرات بأنه في حال تورطهم في أعمال إرهابية على التراب الفرنسي، أو ضد المصالح الفرنسية، ستُسحب منهم جنسيتهم؟ الظاهرة الإرهابية عابرة للأوطان، ولا تعترف لا بالحدود ولا بالجنسية. فهؤلاء يمقتون الجنسية الفرنسية التي يحملونها، وإلا ما هاجموا المجتمع الذي ولدوا وترعرعوا فيها وإليه ينتمون. ومن ثم فسحب الجنسية من أشخاص يرفضونها أصلاً، ويوظفونها لاقتراف جرائمهم، لن يغير من الوضع شيئاً. وبالتالي، لا يقرّ هؤلاء تماماً بالعقلانية التي يستند إليها مبدأ سحب الجنسية.
سادساً، يأتي المبدأ إجراءً قانونياً بعد الضرر، وليس قبله، أي لتجنبه. فأنجع الأساليب في محاربة الإرهاب هي الأساليب الوقائية وليس العلاجية، مع العلم أن سحب الجنسية ليس آلية علاجية على الإطلاق. الحقيقة أن إحدى نقاط قوة الإرهابيين الذين يحملون الجنسية الفرنسية، والجنسيات الأوروبية عموماً، قدرتهم على التنقل بحرية، وغالباً بدون تأشيرة. ومن هنا، الوقاية الاستخباراتية، وحتى الاجتماعية، هي الأنجع والأنسب.