فبراير لبنان وأبطال الاستقلال

14 فبراير 2015
+ الخط -
قد يحلو لكثيرين في بيروت اعتبار استشهاد رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط 2005، مفصلاً أساسياً في مسار تراكمي، أفضى، في نهاية المطاف، إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، بعد حوالي 39 عاماً على دخوله البلاد بحجة "إيقاف الحرب الأهلية اللبنانية" (1975 ـ 1990). في الواقع، أصبح الجيش السوري طرفاً في الحرب اللبنانية، منذ اليوم الأول لدخوله في ربيع 1976. لم يكن لبنان كما كل دولة مُحتلّة، ولم تكن سورية كما كل دولة احتلال. كانت صيغة غريبة، تداخلت فيها أمم عدة، وكان الوجود السوري، في تلك المرحلة، "ضرورياً وشرعياً ومؤقتاً". لم يكن أحد يريد سماع أزمة "تقرير الشعوب مصيرها"، أو "أن دولة تعرّضت لاعتداء دولة جارة لها". إرادات الدول مسألة أخرى، تعاني منها سورية حالياً. والأسوأ أن العالم لم يعتد على سماع الشرق، خارج إطار إسرائيل والنفط. لم يؤدِّ اغتيال الحريري، في بيروت، إلى ظهور طبقة جديدة، ولم تؤطر الحركات السرية ضد الاحتلال نفسها في شكل علني، أبداً. كل ما في الأمر أن بعضهم نقل بندقيته من كتفٍ إلى كتفٍ، بسبب تقلّب زمن المصالح. فتحوّل الخاضعون لمراكز القرار السورية في بيروت إلى متصدرين للحركة الشعبية الاستقلالية في ساحة الشهداء. وتحوّل زوّار عنجر (شرق لبنان، حيث كان مقرّ جهاز الأمن والاستطلاع السوري في لبنان) إلى مطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال.
كان الأمر مضحكاً مبكياً، فمن كان من "رجالات" الاحتلال، بات يقرع طبول الاستقلال. لم يرد أكثر الناس في لبنان تصديق أن الأمر كذبة، أو مجرّد خداع من الاستقلاليين الجدد، بل أرادوا الإيمان بأن "حاجز الخوف انكسر"، وأن الجيش السوري على عتبة مغادرة البلاد، نهائياً. كانت الموجة أكبر من محاسبة شخصيات سياسية، حكمت في ظلّ الحراب السورية. أدّى اغتيال الحريري إلى قيام تظاهرات كبيرة محلياً، وبدأ تحرّك العالم دولياً وفقاً لمصالحه، لا حباً بالمبادئ والقيم. دفع هذا كله إلى جلاء الاحتلال في 26 أبريل/نيسان 2005. ظنّ الجميع أن مرحلة عتيدة مليئة بالتغييرات والإنجازات ستحكم لبنان، شبيهة، إلى حدّ ما، بثورة الخاسرين في الحرب العالمية الثانية (1938 ـ 1945)، ألمانيا واليابان. غير أن الأمر لم يكن كذلك، بل كان استمرار تقاسم السلطة بين الأركان اللبنانية نفسها التي رفعت علم الاحتلال السوري. لم يكن تيار المستقبل، ولا حزب الله، ولا حركة أمل، ولا الحزب التقدمي الاشتراكي، مناضلين في ساحات الاستقلال. تحديداً في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، بل كانوا جزءاً من سلطة تشاركت مع النظام السوري تركيز دعائم الفساد في لبنان. ساهموا، بشكل أو بآخر، في إسكات الأصوات الحرّة التي طالبت بانسحاب الجيش السوري من وطن الأرز. ساهمت السلطة المحلية في إغلاق قنوات تلفزيونية معارضة للنظام السوري. باركت للنظام الأمني اللبناني ـ السوري المشترك، ليسرح ويمرح كما يشاء، ويعتقل الشبان الذين كانت تهمة معظمهم "رفع علم لبنان". كما أن من أصبح استقلالياً فجأة لم يذق ما تعرّض له الماريشال الفرنسي، فيليب بيتان، من ذلّ ومهانة شعبية. كانت الطائفية أقوى من الاستقلال، ما جعل الرباعي، تيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي، يستمرّ على وقع تبدّل الأوضاع في الشرق. والأهم أن لا أحد فتح ملفات الفساد، بل واصل الجميع انغماسه فيها، فقدرة المحاسبة ضَعُفَت إلى حدّ أنه في حال اشتعلت أي ثورة لبنانية، إن اشتعلت، ستعاني من منظومة الفساد أكثر من أي دولة أخرى. لم يؤدِّ اغتيال الحريري إلى "استقلال لبنان الثاني" كما يُشاع، بل أدى إلى تكريس استقلالية الطوائف عن لبنان... أولاً.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".