صعودا وهبوطا، وبحركة لا تتوقف إلا حين اقتراب شخص ليدسّ في العلبة بعض النقود، تُبقي العجوز غوريل سيبول على حركة يدها بلا كلل.. ابتسامة توزعها على من تلتقي عيونها بعيونهم، أو ممن يلتقطون رقم الهاتف لدفع التبرع من خلاله، إذا كانوا لا يحملون نقودا.
اعتاد عابرو محطة أوبسالا، ولثمانية أعوام منصرمة، رؤية غوريل (أو جوريل كما تحب أن تُنادى)، وهي تصر على دعم قضية فلسطين.. القضية الأحدث لها هي غزة.. لكنها في عملها التضامني ليست جديدة مع فلسطين.. فمنذ 1962، كان موعدها مع موقف آخر، بدا سابحا عكس التيار في زمن كانت إسرائيل جزءا من مشهد إيماني كنسي اعتبرها عمقا تاريخيا وهوية حضارية في منطقة لم يكن لصورتها سوى "عرب متخلفين".
في نهايات الأسابيع في السويد، وتحديدا أواخر نهارات أيام جُمعها تنشط حركة الآلاف من
وفي محطتها المركزية يلفت العابر سيدة في عقدها الثامن، تتلحف بكوفية فلسطينية، ترتدي معطفا أسود، وتهز بيدها اليمنى علبة زجاجية مصدرة صوت خشخشة يثير انتباه العابرين، وباليسرى تمسك يافطة تحمل ألوان علم فلسطين الذي يكوّن لوغو حملة أسطول الحرية لكسر حصار غزة.
في شبابها، احتلت غوريل سيبول لوندغرين منصب رئيسة اتحاد طلبة السويد، عرفت وعملت مع اليساري ورئيس وزراء السويد الراحل أولف بالمه الذي اغتيل في فبراير/شباط 1986. تذكر غوريل لـ"العربي الجديد" كيف كانت رحلتها مع فهم آخر لقضية الشعب الفلسطيني. فمن المفاجئ أن تعرف أن هذه الثمانينية لم تر فلسطين أصلا سوى في 2005؛ "فتأكد لدي أن موقفي المستمر منذ وعيت هذه القضية كان صائبا.. لك أن تفكر كيف لي ولغيري ممن كنا في رحلة أسبوعين للأرض المقدسة أن تلتقينا فوهات بنادق مسلطة علينا من وإلى بيت لحم.. أن يقف جندي/ة في عشرينيات العمر يحمل/تحمل رشاشا موجهاً نحوك، إنه مشهد يدعوك للتأمل بما عاشه شعب هذه الأرض في فلسطين منذ أن احتلت".
هذا استنتاج بدايات موقف لم يتغير بعد نصف قرن ونيف من التضامن العملي مع الشعب الفلسطيني. في طفولتها "كانت في أيام الأعياد تحضر بيت لحم في الذاكرة كخيال جميل، وحين التقيت بزوجي الذي كان يعمل قسّاً في القدس أخبرني بذلك الواقع المأساوي الذي يعيشه العرب في فلسطين، عن القهر والتمييز والجنود في بداية الستينيات.. فباتت فلسطين لي غير ما هي عليه في أغاني أعياد الميلاد وبيت لحم، صرت أغمض عينيّ وأتخيل بجد كيف يمكن أن يكون المرء فلسطينيا في ظل ذلك الواقع"، تقول غوريل لـ "العربي الجديد".
ورغم التاريخ اليساري لغوريل، إلا أن التربية الدينية المسيحية بقيت تتغلب أكثر مع مرور الزمن، وخصوصا في منزل حيث كان والدها ملتصقا بعمله الكنسي. في الكنيسة الشعبية، أصبحت أكثر نشاطا تجاه قضية فلسطين. وتذكر "تغير الموقف كثيرا، لقد باتت الكنيسة الشعبية في أوبسالا والسويد، تصرف المواقف المؤيدة لفلسطين أكثر قوة مما كانت عليه سابقا، فمدينة أوبسالا أيضا مليئة بالفلسطينيين وانتشر الوعي أكثر بقضية شعبهم مما كان عليه قبل
وتضيف غوريل أن الكنيسة السويدية باتت أكثر جرأة في الخروج بمواقف حول فلسطين. ولا تأبه هذه الثمانينية بما يلقى عليها من اتهامات "معاداة السامية" لأنها تقف أسبوعا وراء أسبوع للدعوة لدعم الشعب الفلسطيني ورفع الحصار عن غزة. تذكر: "بالطبع يعبر بعضهم عن غضبه من نشاطي هذا، لكني لا أعيرهم اهتماما، فأنا منشغلة كغيري في تحفيز الضمير والوعي بقضية الشعب الفلسطيني أكثر من أي شيء آخر".
وتشير غوريل إلى أنه "حتى في الكنيسة ثمة من يعارض الموقف الداعم لشعب فلسطين في السويد، بحجة أن القضية سياسية ولا يجب التدخل فيها، لكن بالطبع هي قضية سياسية أخلاقية لا يمكنك تجنب اتخاذ موقف تجاهها، ولا يمكنك القفز عن التمييز والأبرتهايد اللذين ينتشران في هذا الجزء من العالم".
وتُفيد غوريل بأن "تهمة معاداة السامية التي ينشرها مؤيدو إسرائيل لتخويف موقف الكنيسة المؤيد لفلسطين لم تعد ذا تأثير هذه الأيام، لأن الحقيقة باتت أوضح. دعمي الذي أقوم به من خلال جمع التبرعات لرحلة أسطول الحرية خلال الأعوام الماضية يهدف لبثّ الوعي بقضية الشعب الفلسطيني، ولا يهم كم يدفع الناس، فمجرد وقوفهم أمام اللوحة والتفكير في ما يجري للفلسطينيين يجعلاننا نشعر بأننا أنجزنا المهمة".
تبتسم غوريل وهي تقول إن سنّها قد لا تؤهلها للمشاركة في أسطول الحرية، خصوصا أن زوجها القس اليوم بات مقعدا على كرسي متحرك، "لكني أعرف أن الإسرائيليين لن يسمحوا لي برؤية فلسطين مجددا".
يلفت الانتباه أثناء الوقوف بالقرب من غوريل في محطة أوبسالا المركزية كيف أن هذه السيدة، لا يثنيها الصقيع والطقس المثلج، عن حركة يدها التي تهز النقود داعية المارة إلى التبرع. كثيرون يتوقفون في لحظات العبور السريع للشدّ على يدها ومعانقتها وتشجيعها، ويتصادف أن يمر فلسطينيون ويقف بالقرب منها بعضهم معبرين عن "الامتنان والعرفان لما تقوم به غوريل، فقد تحولت هذه السيدة إلى أيقونة لمدينة أوبسالا بكوفيتها الفلسطينية وإصرارها على الحضور الدائم في كل الأنشطة المتعلقة بقضية فلسطين"، بحسب ما يذكر الناشط الفلسطيني ومرشح البرلمان عن الحزب الاجتماعي الديمقراطي أميل صرصور أثناء وجوده إلى جانب غوريل.
ويعبّر مارة آخرون، من كل الخلفيات العرقية، عن تفهمهم لما تقوم به غوريل "فهي تؤمن بما تقوم به وتستحق منا الاحترام، ولم تتوقف رغم تقدمها في العمر ومرض زوجها، ويكون غريبا لو أنها تأخرت ربع ساعة عن موعدها في الرابعة والنصف من مساء كل جمعة، فيسأل الناس عنها"، بحسب ما تقول المسافرة ماتيلدا التي تحيي غوريل أثناء مرورها بها.
وتذكر هذه السيدة الثمانينية لـ"العربي الجديد" أنها مستمرة في قيامها بعملها لاقتناعها بعدالة القضية الفلسطينية، و"ما دمت قادرة على الوقوف وتحريك يدي، فلن أتأخر عن موعدي حتى يتحرر الشعب الفلسطيني وينتهي هذا الاحتلال المشين للإنسانية وللضمير العالمي".