27 أكتوبر 2024
غرق الأخلاق
في حمأة التغريبة السورية، ونزوح الآلاف عبر المتوسط، وغرق مئات منهم، انتشلت امرأة يونانية رجلاً سورياً وجدته يصارع البحر، وهي على قارب نزهتها الصغير. وعقب هذا الحادث الإنساني، نشرت السيدة، وهي على ما يبدو معروفة في بلدها، كونها ممثلة ربما، صورة لها على وسائل التواصل، إلى جانب اللاجئ المرتجف برداً وشبه المنهار. وسردت، في تعليقها المقتضب، أنها عثرت على الناجي بأعجوبة، بعد أن أمضى ساعات طويلة في الماء، وعبرت عن شديد سعادتها بإنقاذه. الخبر "عادي" للأسف في هذا الزمن المؤلم، حيث تمتلئ مياه المتوسط باللاجئين الأحياء، أو جثثهم الغارقة إلى جانب الأسماك.
في التعليقات التي وردت على صفحة السيدة، من أبناء جلدتها وغيرهم، وبلغات عدة، لم تكن من بينها العربية، مباركات لخطوتها، تعبيرات عن الألم لما وصلت إليه حال اللاجئين، دعوات للتعاضد وتعزيز المساعدة المقدمة لهم، انتقادات سياسية لأداء الحكومات الغربية إزاء هذه المشكلة الإنسانية التي تتفاقم يومياً، انتقادات حادة للنظام الذي يقتل شعبه، ويدفع به إلى المجهول، بعض التعليقات العنصرية ضد الأجانب، تنبيهات من خطر زيادة التطرف وتوحّش ممارساته، ما يدفع المعتدلين إلى الهجرة.. إلى آخره مما يمكن متابعته، وتحسس التوجه السياسي والإنساني لأصحابه. وفي المقابل، عندما نقل أحدهم الصورة، مع تعليق مقتضب باللغة العربية لوصف الحدث، انهمرت تعليقات متنوعة، جزء منها يدعو للقلق حول ما آلت إليه حال بعضهم في المشهد الافتراضي مما يعكس كتلة من الأمراض "المستعصية" في المشهد الواقعي.
ومن دون التوقف عند أرقام التعليقات التي قالت الشيء، وتلك التي قالت غيره، ولأن الطالح يُطيح بالصالح، وعلى اعتبار أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، فمن المفيد التوقف والتركيز على أسوأ التعليقات، والتي تحمل مؤشرات يجدر التنبيه لها. فبعضهم، ولأن السيدة المُنقِذة أسندت رأس السيد المُنقَذ على كتفها مخففة عنه، "اشتهى" أن يكون مكان اللاجئ الضحية، وعبّر عن حسده، لأنه كان يتمنى أن يتمتع بهذه "الوضعية". وآخرُ تناول الأمر بسخرية ضحلة، قائلاً إنه سيُغرق نفسه في بحر اليونان، بحثاً عن منقذة من هذا النوع الجذّاب. كما كان هناك مَن وصل به الأمر إلى أن يتساءل عن شعور الغريق أسفل البطن، عندما ضمّته هذه الإنسانة، وهي خفيفة الثياب. كما لم يخل الأمر من تعليقات "متعصبين" وجدوا، في هذه "الوضعية"، إساءة إلى "دين" الرجل وإيمانه، وأنه كان أجدر به، رجلاً "وتقياً"، أن يرفض أن تضمه سيدة غير زوجته أو أمه، خصوصاً أنها، يا للهول، غير محتشمة. هناك من صرّح، وبالتأكيد، أن هناك من فكّر وأوغل في التفكير.
وبعيداً عن مأساوية موضوع الصورة، وعن الاشمئزاز الذي تولّده بعض التعليقات، على
المستوى الإنساني على الأقل، يبدو أن وسائل التواصل الافتراضية سمحت لعقد دفينة وأمراض نفسية وأخلاق متدنية كثيرة أن تطفو على سطح الصفحات، وتلوّث مواقع كثيرة من دون أي رادع، إلا الضمير المُستتر والمُشوّه. وصار من المفيد للباحثين الاجتماعيين والأطباء النفسيين أن تُصبح هذه الوسائل منصاتٍ لاستعراض أهم أمراض الناس غير الجسدية، ليس لمحاولة علاجها، بل للتعرّف عليها. فكما يمكن أن نجد في بعض ما يرد منها في الغرب عنصريةً وعداءً للأجنبي، نجد فيها شرقاً عقداً جنسية تنخر الجسد والفكر، حيث تتم مواربتها حيناً بالسخرية السمجة، وأحياناً بالكلام الذي يحمل بعداً دينياً، يتبنى الوعظ والتنبيه، ليصل إلى إقامة الحد اللفظي، أو إصدار الفتاوى.
فكم كنا نسمع من بعضهم، في سن الشباب، بعد زيارتهم دولة غربية، أن غالب الفتيات اللواتي قابلهن وقعن في شباك وسامته وخفة دمه، وأنهن كن مستعدات للذهاب معه أينما أراد. وعند سؤاله عن الدليل، أو المؤشر، كان يكتفي غالباً بالقول إنهن ابتسمن له. فالابتسامة، بريئة كانت أم لا، جواز السفر إلى ما يظنه الفكر المشوش جزيرة الأحلام المكبوتة. ومردّ هذا كله أن تراكم تعاليمه التقليدية أوصله إلى اعتبار "الجنس" الآخر مجرّد كائن مرغوب، عليه أن يحتجب عنه، إلا في حالات محددة، فما بالك إن هو ابتسم له. وحدث أن بعضاً من النساء متن بسبب منع إنقاذهن من تحت الأنقاض (في سورية) أو من داخل حريق مدرسة (في السعودية) لأنه لا يجوز أن ينكشفن على رجال الإنقاذ (...).
سوء الأخلاق، أو الانحرافات المعبّرة عن عقد متراكمة، أمراض منتشرة كونياً، ولا مناص منها، ولا إمكانية دوائية للتغلب عليها، وحيث تحفل صفحات الأخبار المثيرة في الصحف والمجلات بسرديات عديدة لها. ومن السذاجة والطوباوية الاعتقاد أنه، من خلال بضع كلمات، أو حتى كثيرها، يمكن أن يُستعاد السيىء إلى جادة المعقول. في المقابل، الربط القائم بين سوء الأخلاق وسوء الظن وسوء النية من جهة وبين المفاهيم الدينية من جهة أخرى، والذي تتيح لها منصات التواصل الافتراضي أن تنتشر بكل رحابة، ظاهرة خطيرة، خصوصاً في المجتمعات المحافظة، يتوجب على النخبة الدينية (إن وجدت) أن تتصدّى له.
في التعليقات التي وردت على صفحة السيدة، من أبناء جلدتها وغيرهم، وبلغات عدة، لم تكن من بينها العربية، مباركات لخطوتها، تعبيرات عن الألم لما وصلت إليه حال اللاجئين، دعوات للتعاضد وتعزيز المساعدة المقدمة لهم، انتقادات سياسية لأداء الحكومات الغربية إزاء هذه المشكلة الإنسانية التي تتفاقم يومياً، انتقادات حادة للنظام الذي يقتل شعبه، ويدفع به إلى المجهول، بعض التعليقات العنصرية ضد الأجانب، تنبيهات من خطر زيادة التطرف وتوحّش ممارساته، ما يدفع المعتدلين إلى الهجرة.. إلى آخره مما يمكن متابعته، وتحسس التوجه السياسي والإنساني لأصحابه. وفي المقابل، عندما نقل أحدهم الصورة، مع تعليق مقتضب باللغة العربية لوصف الحدث، انهمرت تعليقات متنوعة، جزء منها يدعو للقلق حول ما آلت إليه حال بعضهم في المشهد الافتراضي مما يعكس كتلة من الأمراض "المستعصية" في المشهد الواقعي.
ومن دون التوقف عند أرقام التعليقات التي قالت الشيء، وتلك التي قالت غيره، ولأن الطالح يُطيح بالصالح، وعلى اعتبار أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، فمن المفيد التوقف والتركيز على أسوأ التعليقات، والتي تحمل مؤشرات يجدر التنبيه لها. فبعضهم، ولأن السيدة المُنقِذة أسندت رأس السيد المُنقَذ على كتفها مخففة عنه، "اشتهى" أن يكون مكان اللاجئ الضحية، وعبّر عن حسده، لأنه كان يتمنى أن يتمتع بهذه "الوضعية". وآخرُ تناول الأمر بسخرية ضحلة، قائلاً إنه سيُغرق نفسه في بحر اليونان، بحثاً عن منقذة من هذا النوع الجذّاب. كما كان هناك مَن وصل به الأمر إلى أن يتساءل عن شعور الغريق أسفل البطن، عندما ضمّته هذه الإنسانة، وهي خفيفة الثياب. كما لم يخل الأمر من تعليقات "متعصبين" وجدوا، في هذه "الوضعية"، إساءة إلى "دين" الرجل وإيمانه، وأنه كان أجدر به، رجلاً "وتقياً"، أن يرفض أن تضمه سيدة غير زوجته أو أمه، خصوصاً أنها، يا للهول، غير محتشمة. هناك من صرّح، وبالتأكيد، أن هناك من فكّر وأوغل في التفكير.
وبعيداً عن مأساوية موضوع الصورة، وعن الاشمئزاز الذي تولّده بعض التعليقات، على
فكم كنا نسمع من بعضهم، في سن الشباب، بعد زيارتهم دولة غربية، أن غالب الفتيات اللواتي قابلهن وقعن في شباك وسامته وخفة دمه، وأنهن كن مستعدات للذهاب معه أينما أراد. وعند سؤاله عن الدليل، أو المؤشر، كان يكتفي غالباً بالقول إنهن ابتسمن له. فالابتسامة، بريئة كانت أم لا، جواز السفر إلى ما يظنه الفكر المشوش جزيرة الأحلام المكبوتة. ومردّ هذا كله أن تراكم تعاليمه التقليدية أوصله إلى اعتبار "الجنس" الآخر مجرّد كائن مرغوب، عليه أن يحتجب عنه، إلا في حالات محددة، فما بالك إن هو ابتسم له. وحدث أن بعضاً من النساء متن بسبب منع إنقاذهن من تحت الأنقاض (في سورية) أو من داخل حريق مدرسة (في السعودية) لأنه لا يجوز أن ينكشفن على رجال الإنقاذ (...).
سوء الأخلاق، أو الانحرافات المعبّرة عن عقد متراكمة، أمراض منتشرة كونياً، ولا مناص منها، ولا إمكانية دوائية للتغلب عليها، وحيث تحفل صفحات الأخبار المثيرة في الصحف والمجلات بسرديات عديدة لها. ومن السذاجة والطوباوية الاعتقاد أنه، من خلال بضع كلمات، أو حتى كثيرها، يمكن أن يُستعاد السيىء إلى جادة المعقول. في المقابل، الربط القائم بين سوء الأخلاق وسوء الظن وسوء النية من جهة وبين المفاهيم الدينية من جهة أخرى، والذي تتيح لها منصات التواصل الافتراضي أن تنتشر بكل رحابة، ظاهرة خطيرة، خصوصاً في المجتمعات المحافظة، يتوجب على النخبة الدينية (إن وجدت) أن تتصدّى له.