..عن ذعر الإسرائيليين
نفرح حين نشاهد على التلفزات، وفي الصور الفوتوغرافية، الإسرائيليين، جنوداً أو مدنيين، يبكون مذعورين في أثناء قصف الصواريخ ومقتل اقاربهم أو رفاقهم الجنود، ونعتقد أنهم جبناء، وشعب لا يستحق سوى الازدراء والسخرية، وذلك لأننا نقارن في اللاوعي بين جبروت دولةٍ، من الأكثر تسلحاً وقوة عسكرية في العالم، والروح المعنوية لأفرادها حين يقترب الموت منهم. ويحلو لنا أن نفكر أننا أكثر شجاعة منهم، لأننا لا نخشى الموت كما يخشون، وأننا لذلك لا بد منتصرون، وربما نبني أوهاماً ليس لها إدراكٌ بالواقعية التي من دونها لا نستطيع بناء استراتيجية حقيقية وواقعية لهزيمة إسرائيل، بالواقع لا بالوهم.
تفيد العلوم الانسانية أن صفة الجبن والشجاعة لا يمكن أن تكون صفة جمعية، كصفة إنسانية، وإنما هي صفة فردية تخص الإنسان الفرد، ولا يمكننا، والحالة هذه، وصف شعبٍ ما بأنه شعب جبان أو شجاع، كما لا يمكننا وصف شعب بأنه بخيل أو كريم أو كسول أو نشيط، ففي هذه الصفات نزعاتٌ عنصرية متروكة للصهيونية ونظام الابارتهايد والنازية، وغيرها من النُظم الفكرية والسياسية التي شهدها التاريخ المعاصر.
من أسباب بكاء الإسرائيليين، في هذه الحالات، أن اليهود عموماً لا يؤمنون بالبعث والآخرة، أي أنهم يؤمنون بأن الثواب والعقاب هو في الدنيا، وبالتالي، من يموت، الآن، فهو ميت أبديّ، ولن يُبعث حيّاً كما يؤمن المسلمون والمسيحيون بيوم القيامة. ولذلك، يكون تقديرهم للحياة أشدّ وأكثر تمسكاً بها من غيرهم من أتباع الديانات السماوية الأخرى. لاحظوا كيف نتجمع بالعشرات حول انفجار أودى بشخصٍ منا، وكأننا لا نخشى الموت الدنيويّ الذي قد يكون بانفجار يتبع الانفجار الأول. ولاحظوا تنظيمهم في اللجوء إلى المخابئ والاماكن الآمنة، المجهزة مسبقاً، ولاحظوا عدد الخسائر المتدني في صفوف مدنييهم، ولاحظوا شعاراتنا في تشييع الشهداء التي تؤكد على الحياة التالية للشهيد.
ثم لاحظوا اهتمام إسرائيل بجثامين قتلاها في الأسر، فهي مستعدة لأن تدفع أثماناً كبيرة لأستعادة الجثمان، حتى ولو كان قطعةً من قدم أو يد، وليس مردُّ ذلك إلى العقلية الأمنية لإسرائيل، وطمأنة جنودها وشعبها إلى حرصها كدولة على الفرد، ميتاً وحياً وحسب، بل لأن العقيدة اليهودية تستوجب دفن الميت في "أرض الميعاد" أو "أرض اليهود". ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية توفي عام 1904 في النمسا، وكان أوصى بدفنه في فلسطين، وهذا ما حصل في 1949، أي بعد 45 عاماً من وفاته، وبعد عام من تأسيس دولة إسرائيل. وكذلك كان هرتزل قد أوصى بدفن أولاده في فلسطين قبل موته، وتوفيت ابنته بولين ثم ابنه هانز توفيا في فرنسا في العامين 1930 و1940، وتم نقل رفاتهما إلى دولة إسرائيل في العام 2006، تنفيذاً لوصية هرتزل، وكذلك حفيده الذي مات في الولايات المتحدة عام 1946، ونقل رفاته ليدفن في دولة إسرائيل في 2007.
وعودة إلى أسباب بكاء الإسرائيليين المذعورين أمام الموت، فإن معظم اليهود في إسرائيل، اليوم، هم نتاج الثقافة الغربية التي نستطيع أن نصفها بأنها ثقافة لا تجد غضاضةً في الكشف عن مكنونات النفس والبوح عن لحظات الضعف النفسي أمام الآخرين، أو أمام الكاميرات، خلافاً لما هو موجود في ثقافتنا العربية الإسلامية التي تكبت دواخل النفس، نتيجة التربية على العيب والحرام والرجولة والفحولة.
أكتب في ذلك، حتى لا يصيبنا الوهم ونستهتر بقدرات العدو، ونُضخّم قدراتنا، وننسى أن الانتصار على إسرائيل يتطلب فهم العدو، وفهم نفوسنا وقدراتنا بواقعيةٍ، ووضع استراتيجية عسكرية وسياسية ومنظومة من الخطط التي تشمل جميع نواحي حياتنا، لا بالعنتريات والاستهانة بما يملكه العدو من قدرات وتفوق عسكري، فالإيمان وحده لا يهزم عدواً يمتلك كل هذه القدرات، وإن بكى جنوده وولولت نساؤه.