عن حاضر كان ينقصنا

07 ابريل 2015
لوحة للفنانة ريم الجندي
+ الخط -
عنوان المقال، مقتبسٌ من عنوان مقال للكاتب الراحل سمير قصير، صاحب الهويّة المشرقية بامتياز، فهو فلسطيني الأب وسوري الأم، لكن لبناني بالجنسية. بعد مقتله في الثاني من حزيران عام 2005، في بيروت، سمّي شارع باسمه في رام الله. مما لا شك فيه أن سمير قصير، يمثّل صورة للمثقف ودوره، ومآله أيضًا عندما يقول رأيه المنحاز إلى الحرية ضدّ الاستبداد، بقطع النظر عن "نوع" الاستبداد. تتقاطع "قصّة" سمير، لو جاز التعبير، مع "قصّة" الأديب الفلسطيني ابن عكا البار، غسان كنفاني من حيث تشابه المآلين؛ الموت بتفجير السيارة، وتفترق عنها في غير ما مسار. بيد أنها تتقاطع أيضًا من حيث إشارتها لمآل التهجير القسري الذي طال الفلسطينيين عام النكبة. إذ اضطر الفلسطينيون إلى النزوح عن أرضهم، فذهب بعضهم إلى بلاد هي الأقرب جغرافيًا إلى فلسطين؛ سورية ولبنان. ولا يمكن النظر في سيرتَي غسّان وسمير، إلا من خلال هذا المثلث: فلسطين، سورية، لبنان، الذي فيه، تختلط الدماء وأماكن الإقامة المتبدلّة حُكمًا نتيجة النكبة.

هكذا وُلد المخيم، هكذا وُلد الشتات. وبينهما تفتّح وعي الأديب غسان، ذي الموهبة الاستثنائية في القص والرواية والمسرح والمقال، صاحب الحسّ الشفاف والذهن الوقاد. غسان القادر على قراءة الواقع بدقّة، كتب عام 1962 قصّة قصيرة بعنوان "أبعد من الحدود"، تختصر وضع الفلسطينيين في المخيم وفي الشتات، لكنّها تبيّن أيضًا إلى أي حدّ كان كنفاني بصيرًا ومستشرفًا لوضع أبناء جلدته الهشّ الذي يسمح للمستبدّين استعمالهم كـ "ورقة" وفقًا للتعبير السياسي المقيت. يقول الفلسطيني ابن المخيم، لـ "الرجل الهام" المرفّه: "نحن مثلاً أكثر جماعة ملائمة من أجل أن تكون مادّة درس للبقية. الأحوال السياسية مستعصية صعبة؟ إذن، اضرب المخيمات! اسجن بعض اللاجئين، بل كلّهم إذ استطعت! أعط مواطنيك درساً قاسياً دون أن تؤذيهم. ولماذا تؤذيهم إذا كان لديك جماعة مخصصة تستطيع أن تجري تجاربك في ساحاتها؟".

كان غسّان ذكيًا بصيرًا، إذ أغفل إعطاء اسم للشاب الفلسطيني ولـ "الرجل الهام". فهو الأديب الفذ الذي يعرف دروب المجاز وقدرته على التفلّت من زمان ومكان محدّدين، كي يبقى يدقّ في ضمير الناس، ويبيّن لهم إن الأمر أوسع من "قصّة قصيرة".
المجاز ها هنا واضح، ويستطيع المرء تذكّر مرّات لا تحصى استعمل فيها السياسيون الفلسطينيين كـ "ورقة"، إذ لم يبقَ أحد إلا ومارس على الفلسطينيين قوّته وسلطته وطغيانه. صنوف شتّى من القهر والتنكيل مرّت على الفلسطينيين، وتاريخهم مثخن بالجراح التي يعرفونها عن ظهر قلب في "درب آلامهم" الذي لمّا ينته بعد.

وإذ تصدّر مخيم اليرموك، المنسي إلا من الموت، نشرة الأخبار، فلينقل لنا أخيرًا وجود "داعش" فيه. هكذا بعد سنتين من الحصار والجوع والموت البطيء، فضلًا عن القصف بطائرة الميغ وتهديم البيوت، كان ينقص الفلسطينيين في مخيم اليرموك "داعش"، لتكتمل الدائرة الجهنمية من حولهم. شيء يشبه "الأواني المستطرقة" في الفيزياء، حيث تفيض السوائل أو تغيض ضمن معادلة محسوبة، فيتمّ تحليل الخبر عن طريق ربطه بخبر آخر من مكان آخر، لكن بالطبع مكان في دنيا العرب. فالقصد على ما يبدو أن يبقى الفلسطينيون "مادة درس للبقية" مثلما كتب غسان كنفاني.


لمخيم اليرموك في الثورة السورية صورتان اثنتان: صورة القيامة حيث هرع آلاف الناس، فلسطينيين وسوريين، إلى مدخل المخيّم للحصول على "حصّة الغذاء" أثناء الحصار الطويل الذي لمّا ينته. نقلت الأخبار صورة الذلّ والبؤس، ولمّا يفك الحصار. أمّا الصورة الثانية، فصورة الشاب الفلسطيني الناحل بسبب الجوع والحصار، أحمد الأيهم، عازف البيانو، الذي غنّى جوعه ومعاناته هو وفرقته التي كانت تجول المخيم في الصباح الباكر، وتحاول من طريق النغمات، بثّ ولو بارقة من الأمل وبرهة من السعادة هاربةً من الموت المعممّ في ذاك المخيم المنكوب. اشتهرت لأحمد أغنية على موقع اليوتيوب، بعنوان "اليرموك مشتقلك يا خيا"، حيث الأطفال من حوله هو والبيانو، يغنون معه، وتبدو على وجوههم لمحة السعادة الهشّة.

حاول أبناء المخيم بكلّ ما أوتوا من حبّ للحياة أن يصمدوا ويقاوموا، عن طريق الفنّ والأغاني، ذلك لأنهم - وهم العارفون نتيجةً لتاريخهم الطويل من القهر والعذاب - يعلمون تمامًا أن الطريق أطول من طويل، وأن التضامن معهم دونه "أوانٍ مستطرقة" كثيرة، وعليهم دومًا أن يبتكروا ويبدعوا ويستمروا، وأن نشرة الأخبار قد تبحث عن "وردة" في الحرب، لتصنع منها تقريرًا يقول ثمّة حياة ها هناك، وثمّة أمل. تقريرٌ يريد خلق ما يشبه "التوازن" الغريب العجيب بين الصورتين، لكنه في النهاية يؤثّر في النفوس ولو قليلًا. لكن ما كان ليخطر في البال أن في "درب آلامهم"، خبراً يقول "داعش في اليرموك"، أهذا ما كان ينقصهم؟
المساهمون