عن تواطؤ التعليم والتخلف

28 يناير 2018
+ الخط -

• لماذا ينجح التعليم والتخلف بالتجاور داخل الشخص نفسه؟ كيف تحصل هذه المساكنة غير الشرعية في جمجمة الإنسان؟ لماذا تبدو سنواتٌ من الكد على الكتب، وتجشّم الاختبارات، وتوسيع الآفاق، والتسكع في أروقة أفضل الجامعات، والجلوس في قاعاتها، والاستماع لنخبة محاضريها، عاجزة عن استئصال شأفة التخلف من الكائن المُتعلِّم؟ لا أتحدث عن التخلف هنا كغياب للمعرفة، وإنما انحياز للرديء وتشبث بالفشل وتمسك بالخرافة والعجز عن التحرك صوب الأفضل. بل وأسوأ من ذلك؛ لماذا يبدو التعليم قادراً على التحول أداة لتدعيم الجهل وتحصين التخلف؟ باختصار، لماذا يبدو التعليم أحياناً نقيضاً لنفسه، وعكساً لكل ما ينبغي أن يمثله؟

 • بإمكان المرء أن يكون حائزاً على شهادات عليا هذه الأيام في أكثر التخصصات العلمية أو الاجتماعية رقياً، من دون تخليه عن الإيمان بقراءة الكف، أو الأبراج الفلكية، أو مؤامرة الحكومة الخفية أو علاقة الرقم 777 بنشوء إسرائيل وحصول الربيع العربي. ولا يبدو أن هناك قدراً من الانغماس في أرقى أكاديميات العالم في أكثر الدول الغربية نجاحاً وانفتاحاً قادرا على زحزحة إيمان بعضهم بالاستبداد والفردية وحكم العساكر باعتباره مشروعا سياسيا أوحد لبلدانهم. لا على العكس، إذا يصبح التنظير لنظام الحكم الوطني المهترئ ممزوجاً حينها باقتباساتٍ واسعةٍ من ديفيد هيوم وماكس فيبر وفريدريك نيتشه، وثرثرة دورية عن حصرية العنف الشرعي بيد الدولة، واستشهادات عشوائية من شكسبير وإليوت وبوشكين، لطلاء الرداءة الفكرية بمحسّنات بديعية.

 • باستثناء قلة بشرية نادرة، يبدو التعليم أداةً لتدعيم توجهات الإنسان الأصلية؛ تزويدها بذخيرةٍ أكثر فتكاً وقاذفات أطول مدىً. لا يوجد تعليم قادر على هزيمة قرار الإنسان الحاسم بأن لا يتغير. إذا انتهى قرار الإنسان إلى فكرة ما، وآلى على نفسه ألا يغيرها، فإن كل معارف الكون التي يكتسبها تستحيل فوراً مادةً لاصقة لتدعيم فكرته الأصلية.

• لقد انتقلت دفة القيادة في المنطقة العربية إلى جيل من السياسيين ممن تعلموا في معظمهم في جامعات غربية رفيعة. وبدلاً من الانتقال من التخلف إلى الحداثة، حصل تحديث للتخلف

وعصرنة للاهتراء. بدلاً من تحول الخطاب المحنط إلى خطابٍ عصري وحَيّ، انتقل الخطاب المحنط إلى وسائط رقمية، وكأن المشكلة كانت في وسيط التخلف وآليات نشره. ما الفرق بين أنظمةٍ تمجد نفسها ليل نهار عبر الصحافة المطبوعة وتلك التي تفعل الشيء نفسه عبر وسائط التواصل الاجتماعي ولجانه الإلكترونية؛ عدا أن الثانية، بالتأكيد، أكثر إزعاجاً.

 • في المضمار السياسي في بلادنا، يفشل التعليم الراقي في تغيير رؤية النخبة الحاكمة الجديدة عبر آلية دفاعية، تعتمدها تلك النخبة. تتلخص تلك الآلية في عبارة "الخصوصية الثقافية لشعبنا" في مصطلحها الرسمي المهذب، أو"شعبنا حمار ولا يصلح لهذا" في نسختها المُضمرة والأكثر صراحةً. هذه الآلية تجعل كل نظريات الإدارة الحديثة وقيم الحرية وكرامة الإنسان ومعنى المواطنة تذهب أدراج الرياح، بمجرد عودة من درسها إلى أرض الوطن، لقناعته بأنها لا تنطبق على مجتمعه ولا تصلح له. وهي قناعة نفعية بطبيعة الحال، لأنها تشرّع لمعتنقها التفرّد بكل شيء، والسطو على كل شيء. هكذا، يعيش الإنسان سنوات دراسته وابتعاثه في محيط تنويري وتقدمي وعلمي، فيما هو متمترس داخل فقاعة ذهنية لا ينفذ لها الضوء ولا الهواء.

 • العلم والتعليم ليس خلاصَنا، كما اعتدنا أن نردد، وليست مشكلتُنا أننا أمةٌ لا تقرأ كما درج الجميع على التكرار. لا يوجد تعليم في العالم قادر على إصلاح خامة رديئة وطويّة وضيعة، وفي ظل أنظمة تصطفي أردأ من في المجتمع، وأوضع من فيه، ليخدموا في صفوفها، فكل هذا العلم وكل هذا التعليم ليس سوى استمرار للتخلف بوسائل أخرى.

4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
عوني بلال
عوني بلال