21 ابريل 2022
عن السؤال الأخلاقي للثورات العربيّة
عندما أنتج الحراك الشعبي الجاري حاليًّا في السودان شعاره الفذّ: "يسقط بس"، قدّم لنا، نحن الشعوب العربية، من ضمن ما قدمه، ولا يزال، الحراك الثوري العربي من إضاءات، إجابةً على سؤال مثقفي المؤسسة/ السلطة، في ادعائهم أن الحراك الثوري العربي لم يقدم عتبة قيميةً يمكن البناء عليها، وكأن القصة هي هذا الاختزال المخلّ في عمومه، فما بالنا بالنسبة للمثقف؟ ولنا هنا أن نفصل في ذلك الأمر الكثير.
وإذ يتناول أكاديميون ومثقفون عرب ونخب في صالوناتهم، المتعالية، أمر "الخطاب" الثوري العربي منذ 2011، ونتاجه، فإنهم يدّعون أن غياب تلك العتبة هو السبب في غياب أي برنامج سياسي وثقافي، يكفل للشعوب العربية الانتقال الديموقراطي المنشود، وهم، بهذا القول، يغفلون عن أمور بنيوية في سيرورة الثورات عمومًا، والعربية منها خصوصًا. فمثلًا، عندما طرحت الثورة المصرية شعارها "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، كانت تقدّم عتبة قيمية أساسية، لبناء أي حراك، أو رؤى، أو مبادرات، أو حتى مشاركة تداوليّة مقبلة للثورة، كحدث وممارسة. وعليه، عندما سعت بعض النخب السياسية والفكرية إلى الالتحاق متأخرةً بركب الثورة، بعد أن مالت الكفة إليه بعد المواجهات التي عُرفت حينها بـ"معركة الجمل"، والتي
تواطأت فيها مؤسسات الدولة (والعسكرية منها، طبعًا!)، كانت تلك العتبة القيميّة كفيلة بتحديد ما إذا كان هذا المثقف، أو السياسي، أو هذا الحزب، أو غيره مقبولًا في زخم/ جسد الثورة، حتى أن بعضهم طُرد من ميدان التحرير، والمقام هاهنا ليس مناسبًا لذكرهم وطردهم ثانيةً.
قد يرى بعضهم في "الطرد" أمرًا متطرّفًا، ولكن الثورة ما هي إلا فعل رفضوي حاسم متطرفٌ في أساسه، يؤسّس لقطيعة كاملة مع المنظومة السابقة عليه، وبالتالي فهي ليست ثورة إن دخلت في حالة تبادل/ تداول مع ما سبق عليها، وبالذات إذا كان هذا السابق يتضاد قيميًا وسياسيًا مع عتبة تلك الثورة، وبالذات أن كثيرين من هؤلاء الملتحقين بركب الثورة لم يفعلوا ذلك إلا بدافع حساباتٍ براغماتية، وليس دافعًا أخلاقيًا لنصرة سؤال العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وسؤال الثورة بالأساس ليس سؤالًا سياسيًا، حتى وإن تقاطع معه، فالثورة سؤال أخلاقي رمزي، قبل أن يتحوّل إلى سياسي يومي.
قدمت هذه العتبة الأخلاقيّة الخطابيّة أساسًا لبناء فضاء قيمي متجاوز للأيديولوجيا والمأسسة، في ما يتعلق بالخطاب الثوري ومضامينه، وحتى مفاعليه التالية عليه، بل إن تلك العتبة كانت متقدّمة على مؤسسات المجتمع والثقافة، والدولة، وقادرة على احتواء التعدّد الفكري والسياسي والمجتمعي، فكان الحوار الثقافي والسياسي والممارسة الاجتماعية في فضاء/ حيز الميدان، بشكله المادي/ المكاني والرمزي/ الثوري، متقدمًا زمنيًا على الدولة والمجتمع، فلم تُر في الميدان أمراض الاجتماع السياسي والاقتصادي التي أصابت مؤسسات الدولة والمجتمع والثقافة بالتراكم في عصر الدولة المعسكر والرئيس الأب؛ فلم يكن هناك، مثلًا، تحرّش، ولم تكن ثمّة تابوهات في نقاش الخطاب الديني، ولم نر المثقف الأبوي بعباءته الوعظية، ولا أمراض التثاقف والطائفية وغيرها في الميدان، وحتى على مستوى الفنون والثقافة، فقد أنتج الميدان أدبياته وتبصراته التي جاوزت الثقافة الرسمية وديناصوراتها.
وهنا كان على الدولة ومؤسساتها التابعة (الثقافة والمجتمع) التلاعب على هذا الأمر، ودسّ شكل ممأسس ورأسي في هذا الفضاء المتقدم عليها، بطرح منظورٍ براغماتي لتلك التعدّدية وذاك التنوع، ومفاعلي الخطاب والفاعلية الثورية، فطُرحت فكرة التعديلات الدستورية في مارس/ آذار من العام نفسه. وهنا كانت الخديعة؛ فالثورة التي انبنت أفقيًا بشكلٍ تشاركي/ تجاوري متجاوز للثنائيّات وحاوٍ لها في آن، وكانت أكثر مرونة/ سيولة في مواجهة الأيديولوجيا والمؤسساتيّة الحزبية، أصيبت بأمراض المأسسة، لتفتك بجسد الثورة، وبالتواطؤ مع أحزابٍ لا يمكن أن تعرّف ذاتها وآخرها إلا من خلال الأيديولوجيا، وفي هذا يتساوى اليسار واليمين.
ولكن ثمة خلط أساسي هنا بين سؤالين: هل على "الثورة" أن تطرح برامج سياسيّة لتحقيق
الانتقال الديموقراطي؟ وهل هي بذلك برنامج سياسي أو مؤسسة حزبية؟ أم يكفي للثورة أن تكون عتبة قيمية ومفاهيمية للفصل بين ما يبقى عليها وما سيتلوها؟ ليس الخلط وحده هو المشكل هنا، بل فضاءات الطرح أيضًا، فهذا الفضاء الثقافي والاجتماعي العربي هو الذي قامت الثورة عليه بالأساس، ولا يزال فضاءً أبويًا ومركزيًا ومتواشجًا مع الدولة (العميقة)، بل وأكثر من ذلك، هي رافده الأساسي ومطبخ متثاقفيه. لذا يغدو السؤال هنا في ذلك الفضاء، متحيزًا بالأساس، حتى لو تلبس لبوس الثقافة والنقد، فكل ديناميات النقد والطرح لديه لا تتوجه إلى المؤسسة والسلطة والدولة، ولكنها تفعل ذلك باتجاه الثورة، وكأن على الثورة إصلاح كل هذا الخراب المعرفي والثقافي والسياسي، الذي أنتج، ولا يزال ينتج، هذا المثقف وهذا الشكل المتثاقف، المهموم بالمحافظة على دونية ما يعيد إنتاج عليائه من خلالها، فيقال مثلًا، وإن بنفسٍ ثقافوي ونقدي، وهو ليس بكذلك: "ماذا قدمت الثورات العربيّة للشعوب إلا الخراب والدمار والطائفيّة والتخلف والرجعية؟ هل هؤلاء الذين نراهم على الساحة هم السياسيون الذين سيعبرون بنا إلى الديموقراطيّة؟ ألم تكن النخب السياسية الرسميّة على حق حين قالت إن شعوبنا لا تعرف الديموقراطية بعد، وأنها كنخب أخبر بها من تلك الشعوب"؟. ولا يختلف هذا الخطاب كثيرًا عن مقولة رجل المخابرات الأسبق ونائب الرئيس المخلوع مبارك في أزمته، حين قال: شعوبنا العربيّة لا تملك ثقافة الديموقراطية"، أو كما قال عبد الفتاح السيسي مرة لضيوفه من الرؤساء الأوروبيين: "لكم إنسانيتكم ولنا إنسانيتنا".
ليس من السهل على مثقف المؤسسة الرسمية التابعة لدولة ما بعد الاستعمار العربيّة، أو ما سميت دولة قومية/ قُطرية، أن يتفهم ما معنى "عيش، حرية وعدالة اجتماعية"، وهو لا يزال متقوقعًا داخل جسد وبنية وخطاب الدولة والنظام الذي ما لبث أن فشل في سؤال الحرية والعيش والكرامة الإنسانية. ليس على الثورات أن تقدم إجاباتٍ على أسئلة دولٍ وأنظمة ومركزيّات فشلت في السؤال السياسي اليومي، كما فشلت في السؤال الخطابي الرمزي وأخلاقيته. على هذه الأنظمة أن "تسقط بس"، بكل ما في هذا الأمر من رفضٍ وحسم، ومن ثم علينا أن نبني على تلك القطيعة الأخلاقية معها عيشا وحرية وعدالة اجتماعيّة. ونرى أن إعادة الزخم إلى الحراك الثوري العربي لا تكون بموضعة السياسي ثوريًا، إنما الأخلاقي والفكري/ النقدي ثوريًا، بكل ما يعنيه ذلك من تعالٍ على أيديولوجيا المعارضة، وثنائيات الممارسة السياسيّة، والمثقف الأب، تلك التي تستفيد منها الثورات المضادّة، ومتثاقفوها، خطابيًا. فلنخلق تداولًا ثوريًا لهذا الرفض وتلك القطيعة، يقبل التعدّد ويتداوله بل وينتجه أفقيًا، بناءً على تلك العتبة القيمية/ الأخلاقيّة، حينها سيصبح السياسي تحصيل حاصل، وإن طال الزمن، بالذات في ظل ذاكرةٍ حيةٍ للشعوب وثوراتها، دفعت أثمانها شهداء ومعتقلين ومخفيين قسريًا، وفسادًا وتطبيعًا وتطبيلًا.
وإذ يتناول أكاديميون ومثقفون عرب ونخب في صالوناتهم، المتعالية، أمر "الخطاب" الثوري العربي منذ 2011، ونتاجه، فإنهم يدّعون أن غياب تلك العتبة هو السبب في غياب أي برنامج سياسي وثقافي، يكفل للشعوب العربية الانتقال الديموقراطي المنشود، وهم، بهذا القول، يغفلون عن أمور بنيوية في سيرورة الثورات عمومًا، والعربية منها خصوصًا. فمثلًا، عندما طرحت الثورة المصرية شعارها "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، كانت تقدّم عتبة قيمية أساسية، لبناء أي حراك، أو رؤى، أو مبادرات، أو حتى مشاركة تداوليّة مقبلة للثورة، كحدث وممارسة. وعليه، عندما سعت بعض النخب السياسية والفكرية إلى الالتحاق متأخرةً بركب الثورة، بعد أن مالت الكفة إليه بعد المواجهات التي عُرفت حينها بـ"معركة الجمل"، والتي
قد يرى بعضهم في "الطرد" أمرًا متطرّفًا، ولكن الثورة ما هي إلا فعل رفضوي حاسم متطرفٌ في أساسه، يؤسّس لقطيعة كاملة مع المنظومة السابقة عليه، وبالتالي فهي ليست ثورة إن دخلت في حالة تبادل/ تداول مع ما سبق عليها، وبالذات إذا كان هذا السابق يتضاد قيميًا وسياسيًا مع عتبة تلك الثورة، وبالذات أن كثيرين من هؤلاء الملتحقين بركب الثورة لم يفعلوا ذلك إلا بدافع حساباتٍ براغماتية، وليس دافعًا أخلاقيًا لنصرة سؤال العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وسؤال الثورة بالأساس ليس سؤالًا سياسيًا، حتى وإن تقاطع معه، فالثورة سؤال أخلاقي رمزي، قبل أن يتحوّل إلى سياسي يومي.
قدمت هذه العتبة الأخلاقيّة الخطابيّة أساسًا لبناء فضاء قيمي متجاوز للأيديولوجيا والمأسسة، في ما يتعلق بالخطاب الثوري ومضامينه، وحتى مفاعليه التالية عليه، بل إن تلك العتبة كانت متقدّمة على مؤسسات المجتمع والثقافة، والدولة، وقادرة على احتواء التعدّد الفكري والسياسي والمجتمعي، فكان الحوار الثقافي والسياسي والممارسة الاجتماعية في فضاء/ حيز الميدان، بشكله المادي/ المكاني والرمزي/ الثوري، متقدمًا زمنيًا على الدولة والمجتمع، فلم تُر في الميدان أمراض الاجتماع السياسي والاقتصادي التي أصابت مؤسسات الدولة والمجتمع والثقافة بالتراكم في عصر الدولة المعسكر والرئيس الأب؛ فلم يكن هناك، مثلًا، تحرّش، ولم تكن ثمّة تابوهات في نقاش الخطاب الديني، ولم نر المثقف الأبوي بعباءته الوعظية، ولا أمراض التثاقف والطائفية وغيرها في الميدان، وحتى على مستوى الفنون والثقافة، فقد أنتج الميدان أدبياته وتبصراته التي جاوزت الثقافة الرسمية وديناصوراتها.
وهنا كان على الدولة ومؤسساتها التابعة (الثقافة والمجتمع) التلاعب على هذا الأمر، ودسّ شكل ممأسس ورأسي في هذا الفضاء المتقدم عليها، بطرح منظورٍ براغماتي لتلك التعدّدية وذاك التنوع، ومفاعلي الخطاب والفاعلية الثورية، فطُرحت فكرة التعديلات الدستورية في مارس/ آذار من العام نفسه. وهنا كانت الخديعة؛ فالثورة التي انبنت أفقيًا بشكلٍ تشاركي/ تجاوري متجاوز للثنائيّات وحاوٍ لها في آن، وكانت أكثر مرونة/ سيولة في مواجهة الأيديولوجيا والمؤسساتيّة الحزبية، أصيبت بأمراض المأسسة، لتفتك بجسد الثورة، وبالتواطؤ مع أحزابٍ لا يمكن أن تعرّف ذاتها وآخرها إلا من خلال الأيديولوجيا، وفي هذا يتساوى اليسار واليمين.
ولكن ثمة خلط أساسي هنا بين سؤالين: هل على "الثورة" أن تطرح برامج سياسيّة لتحقيق
ليس من السهل على مثقف المؤسسة الرسمية التابعة لدولة ما بعد الاستعمار العربيّة، أو ما سميت دولة قومية/ قُطرية، أن يتفهم ما معنى "عيش، حرية وعدالة اجتماعية"، وهو لا يزال متقوقعًا داخل جسد وبنية وخطاب الدولة والنظام الذي ما لبث أن فشل في سؤال الحرية والعيش والكرامة الإنسانية. ليس على الثورات أن تقدم إجاباتٍ على أسئلة دولٍ وأنظمة ومركزيّات فشلت في السؤال السياسي اليومي، كما فشلت في السؤال الخطابي الرمزي وأخلاقيته. على هذه الأنظمة أن "تسقط بس"، بكل ما في هذا الأمر من رفضٍ وحسم، ومن ثم علينا أن نبني على تلك القطيعة الأخلاقية معها عيشا وحرية وعدالة اجتماعيّة. ونرى أن إعادة الزخم إلى الحراك الثوري العربي لا تكون بموضعة السياسي ثوريًا، إنما الأخلاقي والفكري/ النقدي ثوريًا، بكل ما يعنيه ذلك من تعالٍ على أيديولوجيا المعارضة، وثنائيات الممارسة السياسيّة، والمثقف الأب، تلك التي تستفيد منها الثورات المضادّة، ومتثاقفوها، خطابيًا. فلنخلق تداولًا ثوريًا لهذا الرفض وتلك القطيعة، يقبل التعدّد ويتداوله بل وينتجه أفقيًا، بناءً على تلك العتبة القيمية/ الأخلاقيّة، حينها سيصبح السياسي تحصيل حاصل، وإن طال الزمن، بالذات في ظل ذاكرةٍ حيةٍ للشعوب وثوراتها، دفعت أثمانها شهداء ومعتقلين ومخفيين قسريًا، وفسادًا وتطبيعًا وتطبيلًا.