عن الحقّ في "الاختيار"
بدأت علاقة الدولة المصرية، وفي قلبها المؤسسة الأمنية (الجيش والشرطة) بالسينما في عهد جمال عبد الناصر، بسلسلة إسماعيل ياسين في أسلحة الجيش المختلفة. ومن حينها بدا الأمر وكأنه شرعة الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد. لكن النظر إلى شكل تلك العلاقة ومخرجاتها الفنية من عهد إلى آخر، وصولاً إلى ما يعرض الآن في شهر رمضان (2022) من الجزء الثالث من مسلسل "الاختيار"، الذي يختلف عن الجزأين السابقين عليه، يخبرنا الكثير عن علاقة تلك الأنظمة بالمجتمع المصري.
ولعل هذا هو المدخل المناسب إلى فهم حجم المؤسسة العسكرية وتداخلها في المخيال اليومي الفردي والجمعي للمصريين والمصريات. ويكاد تقسيم الفضاء العام والخاص في سلسلة أفلام إسماعيل ياسين يكون واضحاً، والفضاءات على جانبيه محدّدة بدرجة كبيرة، وقائمة بذاتها، حتى في تكوين المشاهد السينمائية (الكادرات)، بما يسمح بضبط العلاقة، حتى على مستوى المتخيل الفني، بين الدولة والمجتمع، من خلال مجموعة من الأفراد العسكريين المحدّدين، وتداخلهم المنضبط في الحياة اليومية والاجتماعية للأفراد، والذين عادة ما يكونون على علاقةٍ شخصيةٍ فردية بالبطل الرئيسي، ودائرته المباشرة، وتدخلهم في المجتمع كأفراد عسكر/ أمن من خلاله هو، وليس من خلالهم هم كمجموعة ممأسسة (وهنا لنا أن نمتدح مقولة "الشرطة آخر من يعلم"، على جذورها الرأسمالية). ليس هذا فحسب، بل على طول أفلام السلسلة نجد أن خروج الجيش إلى الفضاء العام محدود وله أسبابه، وموقع البطل فيه هو الرئيسي وليس المؤسسة ككل. وصولاً إلى النقيض من ذلك مما رأيناه في الجزء المعروض حالياً من "الاختيار"، حتى إن ثمّة تسريبات صوت وصورة لاجتماعات جرت في منزل من كان حينها رئيساً أو مرشّحاً ليكون على أعلى منصب في الدولة حينها، في انتخابات ديمقراطية. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فاختراق الفضاء العام وجعله ساحة معلومات ومراقبة لأجهزة الدولة المخابراتية، حتى وإن كان بدواعٍ خطابية تتزيّا بزي الوطنية والحرية، إلا أنها، وهي الأبعد عن الاثنين، زرعت الشك في كل مساحات المجتمع، وبالذات مع إغلاق أي إمكانية لفضاء سياسي عام، بكل التضييقات التي تعرّضت لها مؤسسات المجتمع المدني. ولننظر إلى مبنى المشاهد في المسلسل، إذ تركّز مشاهد عديدة على تحويل ساحات المدن ومحالها وفضاءاتها إلى ساحات تجسّس ورقابة ومواجهة، فالعناصر الأمنية في المقاهي وورشات السيارات والمطاعم وتحت الأشجار، ولا بد أنه في شارع ما في حيٍّ ما سيارة ما (فارهة طبعاً) فيها ضابطان (وسيمان) يتجسّسان على شخصٍ ما، وهي الصورة التي لا نجدها في السابق على "الاختيار" من السينما والدراما المصنوعة في استوديوهات الدولة.
اختراق الفضاء العام وجعله ساحة معلومات ومراقبة لأجهزة الدولة المخابراتية، زرعت الشك في كل مساحات المجتمع
الأمر هنا يدفعنا إلى التساؤل عن عدد من النقاط: ما معنى أن تخترق أجهزة الدولة الأمنية كل هذه الفضاءات العامة والخاصة، في لحظة ما، قدّم الجيش فيها نفسه حامي الثورة والثوار في خطاب الدولة الرسمي، والأهم في خطاب المسلسل الذي يقدّم قائد الانقلاب باعتباره المدافع عن خيارات الشعب التي أنتجتها الثورة؟ ألم يكن لدى فصيل سياسي له كل هذه التجربة السياسية في الحياة المصرية أدنى علم، أو على الأقل شك، بقدرات أجهزة المخابرات للدولة، بشقّيها، العامة والحربية، والأمن الوطني، وهو الذي عانى من اختراقاتهم فضاءات المساجد والكتل الطلابية في الجامعات، وغيرها، وهو ما لا يخفى على من يملك نزراً يسيراً من بصر وبصيرة؟
في شأنٍ آخر بالنسبة إلى "الاختيار"، بما هو بالأساس مادّة متخيّلة أنتجتها تفاصيل واقعية، بلغت واقعيتها أنها سُجّلت صوتاً وصورة، فأين الخيال في الموضوع؟ الأزمة ليست في حجم المتخيل، بل في نوعيته. يكاد يتفق مخيال العسكر والإخوان المسلمين على نوع من الجدب بشأن العلاقة مع الثورة، التي هي السياق الأكبر والأعم الذي تتحرّك فيه أحداث موضوعنا ومادته. فكلاهما واجه حدثاً ثورياً بأدواتٍ غير ثورية، فالإخوان كانوا يمارسون السياسة لا الثورة، ولعل مهادنتهم المؤسسة العسكرية في مراحل متفرقة، حتى وإن أتت ضمن علاقة قوي وضعيف، إلا أنها جرت بأدوات براغماتية بالأساس، يفرضها الوضع السياسي، ولعل هذا ما منح المؤسسة العسكرية قوة في مواجهة فصيلٍ لا يدرك الوضع القائم إلا في شقه السياسي، وليس الثوري، ولعل هذا ما يفسّر غياب أحداث أساسية شهدتها مصر في تلك الفترة، عن المسلسل، لأنها تفضح مواقف سياسية للطرفين معاً.
يكاد يتفق مخيال العسكر والإخوان المسلمين على نوع من الجدب بشأن العلاقة مع الثورة
بالنظر إلى "الاختيار" من موقعه السياسي، أي كبروباغندا، فهو ينطلق من إمكان إحكام المعنى، في محاولةٍ لتحقيق سيطرة شاملة على الرأي العام. لكنه، لأسباب عدة، تتجاوز فكرة وقوف دولة كاملة خلفه، لا نظن أنه قادر على تحقيق هدفٍ كهذا. يتضح ذلك إذا نظرنا إلى العلاقة مع ذاكرة الشعوب.
صحيحٌ أن الدولة كمنظومة ذاكراتية تقوم على التذكير دوماً بما يجب نسيانه، إلا أن نموذجنا هنا لا يستطع فعل ذلك تجاه أحداث ما بعينها لا يمكن الذاكرة الجمعية نسيانها، لأنها أقوى من سياسات الذاكرة الدولانية، ومن أبرز تلك النماذج جريمة قتل ألتراس الأهلي في ملعب بورسعيد فترة حكم المجلس العسكري، وغيرها.
قد يقول أحدهم إن المسلسل اعتمد في ما اعتمد على وقائع، وأدلة حيّة، كثيرة. ولهذا ملئت مساحاته الدرامية بتسريبات المخابرات العامة والحربية والأمن الوطني، للإخوان المسلمين وعنهم وعن غيرهم. وهو أمر للوهلة الأولى صحيح، لكن السؤال: ما معنى أن أعرض تسريباتٍ لمن لا يملكون حقّ الرد، إما لأنهم مخفيون قسراً، أو علناً في أحد سجون الدولة، أو ماتوا في قبو ما أو زنزانة انفرادية ما، أو حتى قُتلوا أمام قاضيهم، وبقيت جثثهم أمام ميزان العدالة ملقاة، بتشفٍّ، كما هو الحال مع الرئيس الراحل محمد مرسي.
لا يملك أحد من العاملين في المجال الفني والإنتاجي والدرامي رفض تكليف العمل في انتاجات مثل "الاختيار" إلا وانتهى مسجوناً أو منفياً أو في أفضل الأحوال عاطلاً
الأمر هنا لا يتعلق بالردّ على ادعاءات الدولة ووثائقها وتسريباتها لأغراض سياسية، فالردّ إنما هو شرعنة لخطاب البروباغندا، وسقفه سياسي بالمعنى البراغماتي لضرورات الخطاب الثنائي. إنما الأمر فعلياً له علاقة بأخلاقية المخيال الدولاني، وهو في الحالة المصرية مأزوم منذ فترة أنور السادات على الأقل، لكنه لم يكن في مكان سابق فاشياً ولا أخلاقياً كما هو الحال الآن. وعليه، فإن خطاب الدولة هنا (البروباغندا) إنما يتطلب من الفرد شكل مواطنةٍ يقوم على تذويت الدولة ومنطقها الفاشي. وبالتالي، يتحوّل المجتمع في كله فرداً وجماعة إلى أفراد أمن وجواسيس.
بقي أن نشير إلى أن عملاً درامياً بهذا الحجم، وهذه الميزانيات، تقف خلفه الدولة بكل مؤسّساتها، ولا يملك أحد من العاملين في المجال الفني والإنتاجي والدرامي رفض تكليف العمل في هذه الإنتاجات إلا وانتهى مسجوناً أو منفياً أو في أفضل الأحوال عاطلاً من العمل، ألا يدفعنا ذلك أن نتساءل ضمن "سياسات الذاكرة والنسيان" في الدولة الحديثة: ما الذي يريدنا النظام المصري أن ننساه بشأنه بهذه القوة، وما الذي يريدنا أن نظل نتذكّره بتلك القوة نفسها، ولم يستطع؟