علي البزّاز.. أثر العاديّ والمهمَل

03 نوفمبر 2014
مقطع من "أثر أزرق"، مواد مختلفة على خشب (2014)
+ الخط -

تكاد معظم الكتابات التي تناولت موضوع العلاقة بين الشعري والتشكيلي، إنْ في جانبها النقدي أو في مسعاها النظري، أن تكون حاسمة في مسألة غياب فروق جوهرية بين هذين الفنّين. إذ ترى غالبية تلك التنظيرات تشابهاً في طموح هذين الحقلين الإبداعيين نحو خلق عوالم تخييلية قوامها الإدهاش والمفارقة، وفي تجسير كل ما يمكن اعتباره فروقات واضحة بينهما، بما هي قطائع أو تنافرات يغلب عليها طابع الوحدة الكلية.

ذلك أن الشعريّ ظلّ، وهو يقدّم إبدالاته في صياغة احتمالات مغايرة للعالم، مسكوناً بتسخير ممكنات اللغة عبر مخزوناتها الدفينة، في تنويع اقتراحاته الجمالية لما يمكن اعتباره رؤية استشرافية تضع اليد على ما ينبغي أن يكون.

الطموح نفسه، وإن اختلفت الركائز وأدوات الإنجاز، راهنَ عليه التشكيل أيضاً، على امتداد مدونة الفن عبر التاريخ، لاقتراح بدائل تنطلق من الواقع لإضفاء شحنة وجدانية ومسحة نفسية على مختلف تمظهراته، بما يعيد ترتيب ممكناته على نحو مفارق وجديد وخالص.

أليس هذا الانشغال الدؤوب بإعطاء حياة جديدة لعناصر العالم هو ما يشغل بال الشاعر والفنان، وهما يجرّبان مهارتيهما في إعادة صهر المواد والوسائط المتداولة، بما هي خطابات ناضجة، من أجل ابتكار أسئلة إشكالية ووجودية متطورة؟

الأكيد أن كلاً منهما راهَن، وما زال يراهن، على نفس الطاقة التخييلية في سبيل إنطاق الجماد وموسقته، وفي أفق لملمة مناطق الوجدان النائية وإيقاظها من بياتها المؤقت. لكن ما الذي قد يحدث، والحالة هذه، حين تجتمع المقدرتان في ذات واحدة، أي حين يصبح الشاعر تشكيلياً أو العكس؟ وما هي الإضافة النوعية المأمولة من مثل هذه الإقامة بين مجرّتين جماليتين؟

هذا ما تقترحه مناسبة احتضان مركز "نيمار" الثقافي الهولندي في الرباط، حتى السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، المعرض التشكيلي الأول للشاعر والناقد الفني العراقي المقيم في المغرب، علي البزاز. معرض يحمل عنوانه، "كلنا أثر، كلنا وجهٌ وقفا"، دلالات تلقي بظلالها على تلك المسافة الرفيعة الكامنة بين النفَس الشعري المشكِّك والطموح التصويري القلق.

أكثر من عشرين عملاً صباغياً، تتوزع بين اللوحة التقليدية والتجهيز، هي مقترح هذا المعرض، الذي يراهن علي البزاز فيه على مقاربة مفهوم الأثر، بما هو بحث دقيق عن تلك الشعرية الملتبسة التي يختزلها العابر، في سيره نحو قدره الخاص، حين تتحول اليد والقدم، على السواء، إلى آلة تشكيل سادرة وغير مبالية، تضفي على الأشياء شعرية غامضة.

من هنا يأتي اختيار البزاز الاشتغال تشكيلياً على ألواح من خشب، سواء في شكل سطوح مستعادة من نسيان قديم، أو أبواب ونوافذ انتهت وظيفتها الافتراضية في حجب الخصوصيات ومداراة الأماكن الحميمة.

إنها أبواب ونوافذ وقطع خشبية أعاد الشاعر لها بعضاً من روحها المهملة، من خلال معالجتها لونياً، وعبر إعمال مفعول الخدش والكشط والتقشير، في تمرين يشبه إلى حد بعيد تلك التشطيبات التي يستدعيها فعل الكتابة، ساعة الحفر في اللغة بحثاً عمّا يليق بعظمة الشعر، ورسوخه في الوجدان البشري.

فسواء تعلق الأمر في الكتابة والتشطيب بالشكل الذي يتم على الورقة، أو إغداق اللون بسخاء على الألواح الخشبية، ثم العمل على محوه أو إلباسه لوناً آخر يحجبه؛ ثمة اشتغال دقيق على تنخيل ممكنات المعنى، من حيث هو إبقاء (غير مكتمل) على الأهم، على المعبّر، وعلى الجدير بالإفصاح عن التباساته الجمالية والفنية الأثيرة.

من هنا، تبدو أعمال البزاز غير مكتفية بالأثر الأصلي، الذي حملته الألواح الخشبية عبر سفرها في الزمان والمكان، بل سعى الفنان / الشاعر إلى معالجتها لونياً، أو إلى إضافة أشكال هندسية متنوعة عليها، أو إلى تثبيت مواد مختلفة على سطوحها، في جانب تسجيل أثره الخاص عليها، عبر تصفيف عدد من الألوان فوق بعضها بعضاً قبل العمل على معالجتها بالتقشير والخدش، بما ينتج عنه بروز أشكال وعلامات يعي الفنان، وحده ربما، مغزاها وأبعادها ودلالاتها البصرية.

ولئن جاءت بعض أعمال هذا المعرض محتفية بغنائيتها اللونية الواضحة، وهي غنائية تشبه ذلك الحضور الإيقاعي الذي قد يتسلل، من حين إلى آخر، إلى القصيدة، حتى حينما يتعلق الأمر بأكثر الشعراء إقامة في النثر؛ إلا أن أعمالاً أخرى حاولت، بانزياح واضح، أن تقدّم نفسها بما يليق من احتفاء بتلك الوحدة اللونية الملتبسة، التي تحجب خلفها آثار ألوان أخرى، كانت لها حياتها الخاصة السابقة.

وقد يزعم متابع تلك الأعمال أن الفنان، وهو يقف عند هذا المقام اللوني، قد حدس بعض معانيه الخفية والمتوارية، بالقدر نفسه الذي يكشف عن ملامح ذلك النوع من المصادفات الرحيمة النابعة من رحابة التجريب وممكناته المفتوحة، والتي عادة ما تسفر عن مفاجآت جمالية غير متوقعة من الفنان نفسه.

وسواء صحّ ما نزعمه أو مرّ بجانب ما ينشده الفنان، فإن أعمال هذا المعرض تدعونا إلى مزيد من القراءة والتأويل، بما يفصح عن نضج تلك القرابة التوأمية التي تجمع التشكيل بالشعر، والتي حاول علي البزاز أن يبرهن على بعض إبدالاتها، في أول خروج له من عوالم الشاعر إلى عوالم الفنان.

المساهمون