أثارت النظرية الخلدونية المحدّدة لمراحل تحوّلات العمران البادئة من التوحش والغزو البدوي إلى التأنس بتملّك الحضر، ثم انحلال ذلك التملك، بالخضوع لغزو بدوي جديد، انتباه السوسيولوجيا الكولونيالية بمختلف تياراتها ورموزها الكبار (ميشو بيلير، وروبير مونتاني، وغيرهما) وكذلك الأمر مع السوسيولوجيا الأنجلوساكسونية (إرنست غيلنر، وإيفانس برتشارد وغيرهما)، وقد ركز التأويل السوسيولوجي الكولونيالي على مفهوم "العصبية"، حيث استند عليه لتأصيل فكرة "الانقسامية" التي يرفعها هذا التأويل إلى درجة جعلها خِصِّيصَةً لنمط الاجتماع السياسي العربي.
والسبب الذي جعل النظرية الانقسامية ذات حظوة في علم الاجتماع الكولونيالي، هو أنها لا تمنحه فقط أداة توصيف الواقع، بل تمنح الإدارة الاستعمارية أداة للتحكّم في ذلك الواقع أيضاً، باستغلال تناقضاته. ففي تحليل الواقع المغربي، مثلاً، تم تصوير تلك التناقضات بوصفها فصلاً جذرياً بين المدن، حيث يسيطر "المخزن" (السلطة السياسية)، والبدو (البربر)، أي تلك القبائل المتحصّنة في الهامش، المستعدّة لمناهضة أية سلطة تطمح إلى أن تكون سلطة مركزية مهيمنة.
وقد حرص علماء الاجتماع الاستعماري على أن يجدوا للأطروحة الانقسامية، تأصيلاً نظرياً في داخل الفكر العربي ذاته، فأشهروا "المقدمة" بوصفها السند التأصيلي الذي يُثبت صدقية تلك الأطروحة. ومن هنا نفهم سبب حرص الفيلسوف البريطاني-التشيكي، إرنست غيلنر (1925-1995)، على تقديم ابن خلدون بوصفه أب الانقسامية؛ إذ يُراد بتلك الأبوة كسب شرعية ومشروعية تطبيق النظرية على المجال العربي الإسلامي.
وقد ظنّت السوسيولوجيا الكولونيالية وعلم الاجتماع الوظيفي الأنجلو-ساكسوني أنه بمجرّد استبدال ثنائية القبيلة والدولة بثنائية البدو والحضر التي استعملها ابن خلدون، سيتم وصل النظرية الانقسامية بالنظرية الخلدونية بما يسمح لها بتفسير مرحلة بعد الاستعمار.
ولهذا، وفي سياق اختزال وساعة دلالات المفاهيم الخلدونية، تحوّلت ثنائية البدو والحضر في منظور علم الاجتماع الكولونيالي إلى ثنائية البربر والعرب. ومن هنا نفهم أيضاً سبب حرص الكتابات الاستعمارية على التأكيد على أن ابن خلدون نقد "العرب" كجنس عرقي وليس كلحظة في مراتب العمران. وقد كان المستشرق الفرنسي إيميل فيليكس غوتييه (1864-1940) من أكثر الدارسين الذين استعملوا نصوص ابن خلدون - وخاصة أقواله في شأن بني هلال، والمواضع التي أورد فيها لفظ العرب كتوكيد للبداوة المضادة للحضارة - في سياق يمكن أن نرى فيه بوضوح تبريراً إيديولوجياً للتوسع الاستعماري، في حال أن العرب في تلك العبارات التي اقتطعتها الكتابة الاستعمارية من مواردها لا تعني العرق بل البدو.
صحيح أن ابن خلدون يقول صراحة في "المقدمة": "إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب"، وصحيح أيضاً أنه يصفهم بأنهم "أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم؛ فصار لهم خلقاً وجبلةً". لكن ذلك لا ينبغي أن يفهم في سياق عرقي، بل هو تحليل عمراني يرتكز على نمط العيش البدوي وتأثير اقتصاد الرعي في القيم والسلوك.
ومن هنا نفهم سر قول ابن خلدون بأن العرب خراب العمران، حيث لا يقصد العرب كجنس عرقي محدّد، بل يقصد البدو عامة، وهو يقول إن "جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران". فلفظ العرب كجيل يدل هنا على أنه لحظة طبيعية في صيرورة العمران. وهو ما يُجَوِّزُ لنا التعبير عنه بصيغة أخرى فنقول إن العرب - حسب قانون التاريخ من منظور ابن خلدون - مرحلة من مراحل العمران، أي مرحلة بداوته. ودليلنا على ذلك أننا نلاحظه يستعمل عبارة "هؤلاء العرب" ومن "في معناهم"، مُدْخِلاً في "من في معناهم" أقواماً غير عربية، لكنها أعرابية، أي بدوية حيث يقول: "ينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم، وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب له الأكراد والتركمان والترك بالمشرق".
أي أن البدو (عرباً كانوا أو تركماناً أو تركاً أو أكراداً) ليسوا عرقاً، بل نمط في الاجتماع. صحيح أنه يرى العرب "أبعد نجعة وأشد بداوة"، ولكن ذلك معلل عنده اقتصادياً لا عرقياً، حيث يقول إن العرب "أشد بداوة لأنهم مختصّون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها، فقد تبيّن لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران"، أي أن ابن خلدون يميّز بين نوعين من البدو على أساس طبيعة نمط المعاش (الاقتصاد)، هما: "بدو خلص"، أي الذين يشتغلون بالإبل، وبين "بدو مقيمين" وهم أكثر استقراراً؛ نظرا لاشتغالهم بغير الإبل من بقر وشياه وزراعة.
وعليه، فإن فهم دلالة مفهوم العرب مشروط بموضعته في سياق نظرية الدورة التاريخية. وهكذا، فإن حركة انحلال الحضارة بالبداوة لا تحصل - حسب ابن خلدون - بالعرق العربي، بل هو قانون حاصل في التاريخ بـ "العرب ومن في معناهم"، أي بالبدو العرب، وبالبدو الترك، وبالبدو المغول، وبالبدو التتار..
في مقابل كل هذا، تتجاهل السوسيولوجيا الانقسامية اتساع الحقل الدلالي للفظ العرب وتنوّع معناه في المتن الخلدوني، ولا تربطه بفكرة الدورة التاريخية، حتى تتمكن من اختزاله في المدلول العرقي تحديداً.
وذات الرؤية الاختزالية نجدها في تحليل السوسيولوجيا الانقسامية لدال "العصبية"، حيث تختصر معناه في النسب، بينما المنظور الخلدوني لا يختصر "العصبية" في رابطة القرابة (النسب)، بل النسب في المنظور الخلدوني مجرّد أسطورة لا تكتسب فعاليتها من ذاتها، بل من عوامل أخرى لا بد أن تنضاف إليها؛ لتنطلق صيرورة انتقال البدو إلى الإغارة على الحضر، وإسقاط الحكم القائم فيه، والحلول محله. فالعصبية ليست كافية بحد ذاتها، أي كنسب وقرابة، لإطلاق الدورة التاريخية، بل ثمة مجموعة عوامل اقتصادية ودينية وقيمية لابد من توافرها. كما أن النظرية الانقسامية جد متسرعة إن لم نقل سطحية في فهم البنية الداخلية للقبيلة، فالنموذج المساواتي الذي يعمّم على المجتمعات ذات التضامن العضوي - بلغة دوركايم - هو فهم سطحي لا يتنبه للفروقات الكامنة.
ومن ثم فالنموذج الانقسامي رغم تشابه بعض مكوّناته مع مكونات النظرية الخلدونية، ليس مطابقاً لها، اللهم إلا إذا قمنا بحذف محدّدات جوهرية من فلسفة التاريخ التي بلورها ابن خلدون، واختزالها إلى مجرد تناقض بين القبيلة والحكم المتمركز في الحضر.
وخلاصة القول إن التأويل السوسيولوجي الاستعماري، بتجاهله فكرة الدورة التاريخية، وحرصه على إنطاق ابن خلدون بلغة عرقية مخالفة للغته العمرانية، أفسد معاني المفاهيم الخلدونية.
* كاتب وأكاديمي مغربي