عفيفي مطر.. طمي السرد الخفيف

28 يونيو 2014
+ الخط -

لطالما وصفتْ تجربة محمد عفيفي مطر الشعرية بأنها صعبة النفاذ. في هذا المقام، تُستحضر، غالباً، على سبيل الاستشهاد، عناصر قصيدته الأكثر ملاحظةً: ريفيته أو برّيته كثيمة عامة وبستاناً لقطف الصور والاستعارات، لغته المعجمية كحامل للنص، واستعاداته التاريخية (فلسفيةً وأسطورية ودينية) كاشتغال معرفي أو هاجس جمالي وكثيمة في كثير من الأحيان أيضاً.

ويبدو، ببديهية مفرطة، أن خلطة شعرية كهذه لن تنتهي إلى قصيدة سلسة ومرنة خصوصاً (وهذا عنصر رابع يضاف إلى العناصر السابقة) وأن النص مفصّل، غالباً، على قالب عروضي صارم.

غير أنه، رغم ذلك، وهذه بديهية أخرى، فثمة خصوصية شعرية لنص عفيفي مطر. ولولا ذلك لما كان صاحب "رسوم على قشرة الليل" ليسمّى كأحد أهم وجوه جيل الستينيات الشعري في مصر، وهو كذلك بالفعل.

نحاول اقتراح تصور عن ماهية وشكل الشعرية في تجربة عفيفي مطر، انطلاقاً من قاعدة أنه ليس ثمة هناك تعريف أو حضور ثابت للشعرية وأن ماهيتها، بطبيعة الحال، تختلف بين تجربة شاعر وآخر بل حتى بين قصائد شاعر واحد.

ووفقاً لهذا التصور فإن السرد، بأدواته: القص والدراما والشخوص والمحاكاة، يلعب دور الحامل الخفي للشعرية في هذه التجربة. إذ ثمة، على امتداد منجز عفيفي مطر الشعري، قصة أو حدوتة تشكل عموداً فقرياً لنصه الذي غالباً ما يستجيب إليها، فيطول ويبني معماره وصوره وتدفقه على أساسها. ومن هنا، يمكن فهم قلة النصوص القصيرة جداً في أعمال محمد عفيفي مطر وكذلك قلة النصوص المجردة من الشخصي أو التي لا تنبني على قصّ أو استعادةً تاريخية.

إلى جانب ذلك، يقوم السرد بتخفيف الثقل المعرفي والمعجمي في القصيدة. فأدوات ونماذج القص المألوفة حتى لأكثر الناس عاديةً، تساعد، إلى حد بعيد، على مجاراة نص متخم بالإحالات والترميزات التي تتطلب اطلاعاً وفهماً لسياقها الأصلي من أجل مجاراتها أو "الاستمتاع بها" في سياق النص الشعري. وعلى الرغم من دور السرد الكبير على هذا المستوى، إلا أن نص عفيفي مطر يبقى مشبعاً بما نشعر أنه يثقل على القصيدة.

على هذا الأساس، لن تبدو شعرية مطر مخبأة ومستقرة كنواة داخل طبقات من لغته التراثية ومحاكاته الفلسفية والتاريخية، بل إنها موزعة على أسطر القصيدة ومنثورة هنا وهناك بفعل تنامي الحدوتة في النص والتي تتكامل، في حالته، مع الغنائية (بمعناها الحرفي) التي يفرضها الوزن العروضي.

وقد لا يبدو معقداً على القارئ تحديد علامات حضور السرديّ في منجز مطر، أقله على صعيد الشكل. ويمكن ملاحظة هذه التمظهرات في غزارة النص وتدفقه بشكل واسع على الوزن وكذلك على الصفحة المطبوعة.

كما يصح، أيضاً، الحديث عن العناوين (الكلاسيكية، غالباً) لمجموعاته ونصوصه والتي تفيض بدلالات القص والإخبار والدعوة إلى الإنصات: "الجوع والقمر"، "كتاب الأرض والدم"، "شهادة البكاء في زمن الضحك"، "يتحدث الطمي" (...).

إضافة إلى هذا وذاك، تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى الكيفية المكررة في بناء عدد من الأعمال التي تتصل قصائدها، فيما بينها، بخيط سردي وكذلك بثيمة معينة يحمل أحدهما الآخر. ويحيل هذا إلى حاجة الشاعر، في الأماكن التي يبتعد بها عن الشخصي، إلى أيقونة تاريخية لينطلق من سرديتها مكتملة الحبكة والدلالة إلى ما يريد أن يقوله أو يسقطه في قصيدته التي غالباً ما تلتزم عناء القول. وتتجلى كيفية البناء هذه بوضوح شديد في أعمال مثل "شهادة البكاء في زمن الضحك" و"كتاب الأرض والدم".

* شاعر سوري مقيم في باريس

المساهمون