عصر الأسوار

17 اغسطس 2018
عمل لـ بانكسي في فلسطين
+ الخط -

ربما كانت فكرة السور تُريد أن تُبعد أبناءَها عن الآخر، وتفصلهم عن أي أمل أو احتمال بالتواصل أو العيش المشترك، بالتوازي مع فكرة منع الآخر من التسلّل إلى الأمكنة المسوَّرة. وهي تحمل في طياتها روحاً استعلائية؛ فجميع من يسعى إلى تنفيذها ينتمي إلى سياق منتصِرٍ يعتبر المهزومين و"الضعفاء" حمولةً زائدة على البشرية. ولأنه لا يتمكّن من إبادتهم، فهو يعمل على حجزهم، أو منعهم من التواصل معه.

وفكرة السور الفاصل ليست جديدةً بالطبع، ويُمكن أن يكون سور الصين واحداً من الجدران التي أراد بها البشر أن يبتعدوا عن البشر الآخرين. وبغض النظر عمّا إذا كان السور قد حمى الصين من الغزوات الخارجية أو من الأفكار غير المرغوبة، فإن بناءه كان يعني في الدرجة الأولى التعبير عن رغبة في العزلة، وعن كراهية للآخر من جهة ثانية.

والغريب أن ينتهي القرن العشرون باستعادة لهذه الفكرة. وإذ لم تُبدِ الكثير من الدول والحكومات اعتراضات جدية، سياسيّاً أو أخلاقياً، على الجدار العازل الذي بنته "إسرائيل" في الأراضي المحتلّة، ظهر أنه بدأ يروق لحكّام العالم الجدد، بل لقد بدا مشروعاً انتخابياً مغرياً، فمن بين البرامج التي وضعها ترامب كي يفوز بالرئاسة الأميركية، كانت فكرة بناء سور يفصل الولايات المتّحدة عن المكسيك، بذريعة الرغبة في منع الهجرة.

كانت واحدة من السمات الرئيسية لعصر الأنوار الخروج من الضيق الجغرافي الذي تمثّل في الدويلات الصغيرة المنتشرة في أوروبا، والاندماج ضمن الوحدات الجغرافية الكبرى، حيث اللغة المشتركة أوّلاً. وربما يكون هدم الحدود الأوروبية، التي قلّما تُذكَر، من بين العلامات الكبيرة لذلك العصر، وهي إحدى معالم الأنوار التي شكّلت مصائر العالم في القرنَين الماضيَين.

ولعل القاطرة البخارية، ومن ثمّ القطار والسيارة والطائرة كانت من الوسائل التي جعلت الحدود والأسوار والجدران مجرّدةً من أيّة قوّة يُمكن أن تعرقل مشاريع البناء الكبرى في القارّة كلها. ثم كانت الرحلات من الداخل الأوروبي إلى خارجه من بين الأنشطة التي بدأت تؤكّد السعي الإنساني لهدم السور. أمّا الأفكار، فقد كانت سيّدة المواقف في هذا الخصوص، إذ تميَّز ذلك العصر بكسر المسافات، بحيث إننا وصلنا اليوم، بعد كل ذلك التطوّر، إلى ما يسمى القرية الكونية.

ولكن، بينما كان الأمل والتقدُّم والانفتاح بين الثقافات علامات لعصر الأنوار، ثم أُلحقت به قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان في العصر الحديث، أضحى اليأس والاقتتال الوحشي والانغلاق الثقافي من علامات عصرنا الحالي الذي قد تصحّ تسميته "عصر الأسوار". وبات كثير من المثقّفين يلتزمون الصمت والتجاهل تجاه قضايا الاضطهاد والقهر، وصار بوسع مثقّفين عرب أن يطلبوا من حكوماتهم إغلاق الحدود أمام اللاجئين السوريّين الفارّين من الحرب مثلاً.

كان طه حسين يُسمّي العمى الذي ابتُلي به في صغره "السياج". لكن حياة ذلك المثقّف التنويري كانت مثالاً حيّاً على السعي لكسر ذلك السياج الذي يفصله عن الآخرين، بقدر ما كانت عملاً لكسر الأسوار بين البشر كافّةً.

المساهمون