عرب البحر الأدرياتيكي

09 اغسطس 2015
(دار نشر آرت كلوب ، أولتشين 2014)
+ الخط -
في وسط البحر الأدرياتيكي، وبالتحديد في مدينة أولتشين Ulqin العريقة، التي كانت تُعرف بلقب "عاصمة القراصنة"، تجمّعت وبرزت في حياة المدينة الاقتصادية والاجتماعية على مدى 400 سنة مجموعة إثنية عُرفت باسم "العرب"، بقي ما يذكّر بهم في هذه المدينة وضواحيها.
ومع أنني كنتُ قد اهتممتُ بهم وخصّصتُ لهم فصلا في كتابي "دراسات في الصلات العربية البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" الذي صدر 2012، إلا أنني سررت بصدور كتاب "عرب أولتشين" عام 2014 للزميل علي لوني، نظراً لأن المؤلف خالط هذه المجموعة في طفولته وكتب عنها، كما أنجز فيلما وثائقيا عنها في سبعينيات القرن الماضي. في هذا الكتاب ما يستحق التوقف عنده، مع أن "عرب أولتشين" حظوا خلال المائة سنة الأخيرة باهتمام الأوساط العلمية اليوغسلافية والأوروبية والأميركية، وخاصة بعد أن نشر الباحث اليوغسلافي، تيهومير جورجفيتش، دراسته الرائدة عنهم في 1930.

عُرفت أولتشين منذ الحكم الروماني للمنطقة، حيث ذكرها المؤرخ، تيت ليف، باسم "أولتسيناتاس" Olciniatas، ثم أصبحت في القرون الوسطى خط التماس بين الألبان والسلاف. وخلال حكم البندقية لها 1423-1571 زارها الألماني، أرنولد فون هارف، في طريقه إلى فلسطين للحج، فذكر أنه سمع فيها اللغة الألبانية لأول مرة في حياته ودوّن بعض الكلمات منها. وضمن الصراع بين البندقية والدولة العثمانية حول هذه المدينة المحصّنة بقلعتها، تمكّن العثمانيون من السيطرة عليها وبقيت تحت حكمهم إلى عام 1878، حين قرّر مؤتمر برلين ضمّها إلى مملكة الجبل الأسود.

وخلال الحكم العثماني 1671-1880 برزت في المدينة إلى جانب الألبان مجموعة متزايدة في العدد والدور اشتهرت باسم "العرب"(harapet أو arapet) نظرا للون الأسود الذي يميزها، ولأنها كذلك جاءت من السواحل العربية (شمال أفريقيا ومصر). وفي الواقع يرادف التراث الشعبي البلغاري والصربي والبوسني والألباني بين "العربي" و"الأسود" لاعتبارات تاريخية وثقافية، وهو ما ساعد هذه المجموعة التي أصبحت تؤلف حوالى 10% من سكان المدينة على أن تكون متماسكة، على الرغم من تنوع أصولها الإثنية. ومع انتقال أولتشين المعروفة بتقاليدها البحرية إلى الحكم العثماني، كانت قد انطلقت في البحر الأدرياتيكي/المتوسط المواجهة بين الدولة العثمانية والبندقية وإسبانيا، التي تضمّنت "القرصنة" باعتبارها نوعاً من "الجهاد"، وأصبحت بعض المدن، مثل أولتشين وطرابلس الغرب وتونس والجزائر، شبه مستقلة بفضل ما يدرّه هذا النشاط على ريّاس البحر. وفي هذا السياق، كان لأولتشين أسطولها الذي يمخر أعماق الأدرياتيكي والمتوسط، ويقوم بهاجمة سفن البندقية وإسبانيا، لكي يستولي على ما فيها ويبيع ما يغنمه في أسواق العبيد. ونظراً لأن العبيد البيض كانوا مرغوبين في مصر وشمال أفريقيا، فقد كان أسطول أولتشين يعود من الإسكندرية وطرابلس الغرب وتونس والجزائر بالعبيد السود الذي كانوا مرغوبين في البلقان.

وهكذا تشكلت من هؤلاء العبيد السود المجموعة السكانية الجديدة، التي عملت في الأسطول والخدمة في البيوت بالإضافة إلى العمل في الزراعة خارج أسوار المدينة. ولكن سرعان ما كانوا يُعتقون من قبل أصحابهم ويُزوجون من بعضهم بعضاً حتى نمت علاقة جديدة بين الطرفين. وبرز من هؤلاء بعضُ ريّاس البحر، مثل علي عربي A. Arapi ، وداود كاليا D. Kalija، وما زالت أسماء الأماكن تذكّر بهم، لا سيما تلك التي عملوا أو تمركزو فيها، كـ"سهل العربي" وقرية "العرب" Arapaj التي تقع على "تلال العرب" إلخ.

تمكن المؤلف من أن يلحق من بقي على قيد الحياة من رياس البحر والبحار،ة الذين عملوا ما بين موانىء أولتشين وبورسعيد وطرابلس الغرب وتونس والجزائر، وجلبوا معهم هؤلاء العبيد، الذين أعتقوا وأصبحوا مكوّنا مهما من المجتمع الأولتشيني بحكم الدين المشترك (الإسلام).

وفي هذا السياق، ساعدته على ذلك اللقاءات التي أجراها مع كبار السن من العرب منذ ستينيات القرن الماضي، والتي أمدّته بمادة غنية عن حياتهم وفولكلورهم ودورهم في الحياة الاجتماعية للوسط الجديد.

وهكذا يميز المؤلف بين العرب السود والعرب السمر والعرب الخلّص. أما عن هؤلاء الأخيرين، فقد كانوا يأتون بأنفسهم من بلاد الحجاز في شهر رمضان من كل عام، وذلك لعرض أنفسهم كأدلّاء لقوافل الحج، التي كانت تخترق الصحارى، أو ليقوموا بالحج بدلا عن أحد من سكان المدينة.

أما عن الاختلاط والتزاوج بين العرب وسكان المدينة فقد وثقت أول حالة في مطلع القرن العشرين، حين تزوج عبدل العربي بفتاة بيضاء ورزقا بابنة "زلفية"، والتي كانت من أوائل البنات اللواتي التحقن بالمدارس الألبانية التي أنشأتها سلطات الاحتلال النمساوي خلال الحرب العالمية الأولى. وازداد الاختلاط والتزاوج بعد 1945، عندما أصبحت أولتشين جزءاً من يوغسلافيا الاشتراكية، ومن أشهر رموز هذه المرحلة، رضا شورذا أو رضا عربي Riza Arapi، الذي كان أول من افتتح محل تصوير وكان الزبائن من السياح البيض يتسابقون للتصور معه.

ويركز المؤلف في كتابه على دور العرب في الحياة الاجتماعية وانعكاس ذلك في الفولكلور المحلي. فقد اشتهر العرب بالقوة والطول وكانت تضرب بهم الأمثال، " قويٌّ كالعرب" و "طويلٌ كالعرب"، وإلى الآن وحين يتعرّض الشباب والشابات لأشعة الشمس على شاطى البحر ويسمرّ لونهم، تقول لهم الأمهات "أصبحتم كالعرب".

وقد اشتهر هؤلاء العرب بما أدخلوه في حياة أولتشين الاجتماعية، وخاصة في مجال الطبخ والموسيقى. فقد حظيت العربيات بشهرة خاصة في الطبخ، ولذلك كان الطلب عليهن كبيرا في الأعراس والمناسبات الخاصة. كذلك اشتهر العرب بالعزف والغناء، وخاصة النقر على الدفوف، ومن أشهر هؤلاء العازفين على الدف كان، سيد العربي.

وعلى ذكر الأعراس، يتحدث المؤلف عن ظاهرة "البولات" Bullat، التي تميزت بها أولتشين فقط. فقد كانت العائلات الغنية تحرص عند زواج بناتها ألا ترسل العروس مع فتاة مماثلة أو جميلة، بل ترسل معها عربية أكبر وأقلّ جمالا تكون برفقتها طيلة العرس لتبدو العروس فائقة الجمال.

ويستذكر المؤلف هنا ما كانت ترويه جدته عن احتفالات العرب بالعيد، حيث كانوا يتجمعون في سهل خارج أسوار المدينة، وهو ما بقي يعرف باسم "سهل العرب "، حيث كانوا يقومون بالغناء. ومن ذلك تستذكر الجدة المقطع الأول الذي ربما تعرض لبعض التحريف:
عرب.. عرب..أي والله
جزم..جزم.. أي والله.

وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن هذا الوجود العربي قد تقلّص بحكم التطورات السياسية والاجتماعية. فمع إلزام الدولة العثمانية بالتخلي عن أولتشين وضواحيها إلى إمارة الجبل الأسود في 1880، فضل الكثير من سكان المدينة الانتقال إلى مدينة شكودرا المجاورة بشمال ألبانيا، وذهب مع هؤلاء نصف العرب الموجودين في أولتشين. ولذلك لدينا الآن في ألبانيا مئات الأسر التي تحمل صفة "عربي" أو "عرابي" Arapi. ومن ناحية أخرى، أصبحت الجبل الأسود جزءاً من مملكة يوغسلافيا خلال 1918-1941 ثم ضُمّتْ الى ألبانيا الكبرى تحت الحكم الإيطالي. ولذلك قامت القوات الإنكليزية في 1943 بقصف مواقع القوات الإيطالية حول المدينة، مما أدى إلى موجة أخرى للهجرة إلى مدينة شكودرا بشمال ألبانيا. ومع عودة أولتشين إلى جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية في 1945، ازداد الانفتاح والاختلاط والتزاوج والانتقال إلى الجمهوريات الأخرى في الفدرالية اليوغسلافية، التي انهارت بدورها في 1991-1992 وصولا إلى استقلال جمهورية الجبل الأسود في 2006.

وفي هذا السياق، نعت الصحافة الصربية في 2003/2/17 وفاة المصور، رضا عربي، الذي كان قد تزوج من الصربية ناديا راتشيتش وأنجب منها ابناً (ماريو) وابنة (أنيتا)، باعتباره "أسطورة أولتشين"، حيث ساهم من خلال عمله كمصور بتوثيق وجود العرب في المدينة. ولذلك اقترحتُ على االزميل، علي لوني، أن يبادر إلى السعي إلى حفظ أرشيفه وينشر ألبوماً خاصاً عن العرب في أولتشين.

(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
المساهمون