عبد الله الديباجي: مشارف الأثر

25 أكتوبر 2014
مقطع من إحدى لوحات المعرض
+ الخط -

الأثر هو موضوع أعمال الفنان التشكيلي المغربي عبد الله الديباجي، المعروضة حالياً في "رواق باب الرواح"، وسط العاصمة المغربية الرباط. أثر الجدران والواجهات والمنازل العتيقة والأسطح والنوافذ والأبواب المتبقية من رسم قديم مندثر، وأثر كائنات هلامية تذرع الطرق والأزقة والجادات، كما لو أنها تنخرط في سيرورة بحثٍ حثيثٍ ومضنٍ عن بوصلة تعيد ترتيب مآل الخطى، وتحدّد الوجهة.

ولفهم خصوصيات هذا المعرض، الذي يستمر حتى 4 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، ويندرج في سياق سلسلة المعارض الفنية التي دأب الفنان على إقامتها، منذ عام 1980، لا بد من وقفة سريعة عند سيرورة تطوّر تجربته التشكيلية.

بدأ مسار الديباجي (مولود في آزمور عام 1952) بتخرّجه من "مدرسة الفنون الجميلة" في مدينة تطوان (شمال المغرب)، في سبعينيات القرن الماضي.

بعد ذلك، قرّر مواصلة دراسته، فتوجّه إلى بلجيكا ودرس في "أكاديمية الفنون الجميلة" في مدينة لييج، ليمتهن بعد عودته إلى بلده تدريس مادة التربية الفنية، وهي الوظيفة التي تدرّج فيها إلى أن أصبح مفتشاً تربوياً للمادة نفسها في مدينة الجديدة.

ومثل أغلب "خريجي مدرسة الفنون الجميلة" في تطوان، جاءت أولى أعمال الديباجي متأثّرة بتلك اللمسة التشخيصية السحرية، ذات النزوع الاحتفائي بكل ما يعتمل الواقع المعيش من أمكنة وحركات ومشاهد وأنفاس. أعمالٌ تعكس، بجميع هذه العناصر؛ التصاقاً حميماً باليومي، عبر مختلف مشاهده التي لا تعدم جمالية وشاعرية.

ولعل هذا الاختيار، المشوب بغير قليل من الحس الأكاديمي، شكّل تمريناً ضرورياً كرّسته هذه المدرسة العريقة في نفوس وأساليب خرّيجيها، قبل أن يتاح لكثيرٍ منهم، بعد ذلك، تجريب مدارسَ واتجاهاتٍ فنية أخرى، قادت بعضهم إلى النحت عميقاً في عوالم التجريد الفني.

الديباجي واحدٌ من هذه الفئة التي جرّب أفرادها التشخيص قبل أن تحط مراكبهم عند التجريد، بالشكل الذي يعكسه هذا الانتقال الخطر والمغامر من الامتلاء والكثرة إلى الفراغ والقلّة، من الحكاية والسرد والقول، بما هي عناصر ومقومات تصنع المعنى وتدعم تحقّقه، إلى ما يشبه البوح الخفيض والإشارة واللمعة، كي لا نقول اللامعنى الذي يخبّئ في ثناياه عدداً من الأحاسيس والمشاعر والإرهاصات التي تؤرق روح الفنان وتشتّت تماسك عدّة مطبخه الفني والجمالي.

ضمن هذا التوجّه، يمكن إدراج معرض الديباجي الأخير الذي يتضمن أعمالاً تتجلى فيها ملامح هذا التجريب المغامر الذي اختار الديباجي أن يدخل متاهاته منذ سنوات، حين قرر الانتقال من المشخّص والمجسّد إلى المجرّد والمرتفع، عبر لمسة يشترك في صياغتها اللون والمادة والشكل والكتل، بما يفضي إلى عالمٍ يحتفي بديناميكية مختلف هذه العناصر التي تشارك معاً في إنتاج عملٍ فني يقبض على شعريةٍ كامنةٍ ومنفلتة، نستشفّها داخل الفضاءات المدينية التي يتحرّك الفنان في أرجائها.

ولعل هذا المسعى الجمالي المغامر هو ما سبق للفنان والكاتب المغربي حسان بورقية أن عبّر عنه في إحدى تأملاته في أعمال الديباجي، حين اعتبر أن هذا الفنان يحاول أن يقبض، لا على المدينة بأشكالها وأنوارها، آناء الليل والنهار، بل على انطباع مباشر، هارب، في لحظة من لحظات تلك الحيوات والأقدار المعيشة، كما يحس به هو في داخله. بعبارةٍ أخرى، يرسم الفنان ما يستشعره، بسرعة، مخافة أن يتبخّر.

بهذه الخلفية غير المطمئنة والمتبرّمة من عوائد الزمن، يذهب الديباجي إلى صياغة جملته الفنية، مسكوناً بغير قليل من ذلك الإحساس بالفقد والضياع: ضياع متاع العين، وفقدان ما يؤسس لذاكرة تظلّ مرتبطة بالعابر والزائل والهش.

هذا الإحساس المؤلم والمضاعف بالخسران، وفي الوقت نفسه، هذا الاحتفاء بما قلّ ودلّ عليه، هما ما يجعل مهمّة فناننا صعبة وملئية بالمخاطر؛ ما يمنحنا الإحساس بأنه يخوض حرباً يومية ضروساً في سبيل الإبقاء على بصمته الماضية متخفيةً وراء طبقات من الإيماءات والإشارات، التي تقف على مشارف الأثر المجرد، من دون الاكتراث لما قد يعتبر ثرثرات سردية زائدة.

ومن أجل هذا الاستثمار في القبض على شعرية الأمكنة وملاحقة سحرها الكامن، يخطو الديباجي، منذ سنوات طويلة، خطوات جبارة في اتجاه ترجمة نبض وقوة وحركة الجسد، جسده المفرد، مستعيناً بعدد من المفردات التشكيلية التي تميّز بقوة تجربته؛ سواء على مستوى اللون الذي يحضر بغنائية مكثّفة وغير مفرطة، أو على مستوى الحركة وإيقاعاتها، التي تنمّ عن عنف وعن حالة جذب متعالية، أو على مستوى التعامل مع الفضاء بحس متوازن لا يميل إلى المبالغة أو المجانية؛ وكلها عناوين تدعم أصالة هذه التجربة، كما تؤكد، في الوقت نفسه، اجتهاد صاحبها في إضافة جملته الخاصة في مدونة التشكيل المغربي المعاصر.

المساهمون