في كثير من المهرجانات السينمائية التي تعقد في المغرب وأثناء الجلسات والنقاشات، كان إعلاميون ونقّاد يدعون مخرجي المغرب إلى الاقتداء بالسينما الإيرانية، مستشهدين باسم عباس كيارستمي على وجه الخصوص.
كان صاحب "طعم الكرز" (سعفة كان 1997) قادراً على الانطلاق من أفكار بسيطة وتحقيق أفلام عالمية من خلالها، لكن كلّ سينمائي يفهم كيارستمي يعلم أن معادلته هذه مطلب صعب على سواه، وقليلون من عباقرة الفن السابع من أخرجوا من قبعة البساطة أفلاماً عظيمة.
الأمر بالنسبة لسينما كيارستمي، والذي يمكن لجيل كامل أن يتعلّم من دروسه الإخراجية، هو كما وصف السيناريست الفرنسي جان كلود كارييه "أعماله مطرزة بالبراءة، مباشرة وبسيطة، لا ترفع أي شعار، فلا مجال فيها للاستطرادات ولا لرفّات الجفن. الفيلم يعطي الانطباع بأنه يخلق نفسه تلقائياً من دون أي أسلوب مقرّر سلفاً".
تقصّى صاحب "الريح ستحملنا" التفاصيل الفنية التي لا يغلب فيها الشكل على المضمون ولا يمكن لأي إطار جمالي أن يقيدها أو يدّعي انتماءها إليه. هو أسلوبه الذي ميّزه عن غيره، ليس في سياق السينما الإيرانية فحسب، بل على صعيد السينما في العالم.
ينقل عن كيارستمي أنه كان مقلاً في مشاهدة الأفلام، فلم ينحز لأي مدرسة، رغم ما يقال عنه من أنه من مدرسة الواقعية الإيطالية، لكن التقاطعات مع هذه المدرسة، مردّها ظرفي أكثر مما هو سينمائي، حيث إن ظروف إيران بعد الثورة الإسلامية كانت تقترب أو تتقاطع مع ظروف إيطاليا بعد الحرب.
لا يرتبط كيارستمي كثيراً بنصوص الأفلام، رغم أنه بدأ يكتبها بنفسه منذ فيلمه الثاني "وقت الفسحة" (1972)، فالحكايات غالباً ما تكون صغيرة الحجم وبعيدة عن التعقيد، غير أنه يعتمد بشكل أساسي على المصادفات الفنية التي يكشف عنها مكان التصوير وأحداثه، رغم أنه يرى أن كل شيء بعد أن يدخل غرفة المونتاج لا يصير صدفة. نجده لا يفضّل أيضا الحدث المباغت، ولا الأماكن المتعددة، يستطيع أن يبني قصصه في المكان نفسه من دون حاجة إلى ترف التعدد؛ وبكلمات قليلة وأحياناً منعدمة كما فعل في فيلم "شيرين" 2008 عندما جعل مئة من الممثلات الإيرانيات والفرنسيات يبكين أمام شاشة السينما وهن يشاهدن قصة فرهاد وشيرين.
ليس البحث في أعمال كيارستمي، بحثاً عن غاية القصة وحسب، بل هو حدث أصيل داخل أعماله، حيث شخصياته منهمكة بالبحث عن طرق وأشخاص وأمكنة لا تصل إليها في الغالب؛ مثلما هو الحال في فيلمه "أين منزل صديقي؟" (1987)، الذي أعلن به كيارستمي عن نفسه؛ حيث يبحث أحمد التلميذ عن بيت صديقه محمد بعد أن اكتشف أنه أخذ كراسته بالخطأ، أو في فيلم "تستمر الحياة" (1992)، حين ذهب المخرج نفسه إلى بلدة كوكر بعد الزلزال ليبحث عن الطفل أحمد بطل "أين منزل صديقي؟" وصنع عنه فيلماً.
العلاقة بين الصورة والكلمة في أفلام صاحب "كلوز أب" لا تخضح بالضرورة لوظائف متبادلة، فهي كما نظّر لها بازوليني "تصير كأن يمشي الإنسان وحيداً في الشارع بآذان مغلقة، دون أن يمنعه ذلك من إنشاء حوار داخلي مع نفسه بين ذاته ومحيطه" وهذه إحدى مقوّمات السينما الشاعرية التي عبّرت بها أغلب أفلام كيارستمي، حيث لا تجاور متلازم بين الصوت والصورة؛ في فيلمه الوثائقي "آي بي سي أفريقيا" (2002) نجده يبدأ الفيلم بسبع دقائق من السواد ويترك الجمهور وسط تأويله الخاص لتفسير ما يحصل.
كيارستامي بأسلوبه الاختزالي يوظف السيارة كمكان يبرر عشقه لطريقة التواصل الدائرة داخلها، أو كوسيط رابط بين نقطتين تنتقل الشخصيات بينهما، مثلما ظهر في "عشرة" أو "طعم الكرز"؛ هكذا تحضر نفس الوسائل في جميع أفلامه تخفت في بعضها في فيلم وتبرز بشكل طاغٍ في فيلم آخر، هذا إلى جانب أنه من بين المخرجيين الذين يحمّلون المشهد عناصر جمالية متعددة، هادئة في شكلها وعميقة في دلالاتها.
وإن كان المخرج الياباني أكيرا كيروساوا قلّما تحدث في مسيرته الطويلة عن مخرجين نالوا إعجابه؛ فقد قال عن عباس كيارستمي: "الكلمات وحدها لا تستطيع وصف مشاعري نحو أفلامه"، وقد يعبر هذا الكلام عن مشاعر كثير من سينمائيي العالم اليوم، بعد رحيل واحد من أهم الأسماء في تاريخ الفن السابع.