عالم ما بعد كورونا .. اقتصادياً

19 ابريل 2020
+ الخط -
مدن كانت شوارعها لا تخلو من المارّة على مدار اليوم، ولا تقف الحركة فيها، وحركة البشر لا تتوقف في العالم. وفي يوم وليلة، هجر سكان المدن الشوارع والميادين، وتوقف الناس عن الحركة، وأغلقت الدول حدودها، وعطلت الجامعات والوظائف وتوقف كل شيء. في ظاهرة ربما لم يشهدها العالم من قبل، يتساءل كثيرون حول شكل النظام العالمي بعد انتهاء جائحة كورونا. ومن هنا انطلق كتاب ومفكّرون وساسة لشرح وجهات نظرهم حول الشكل الذي سيكون عليه النظام العالمي، وأثر جائحة كورونا على العالم. تلفت النظر اثنتان: الأولى، مقالة لوزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، أحد مهندسي الحرب الباردة والنظام العالمي القائم. الثانية، المقابلة التي أجراها المفكر الألماني الكبير، وأحد رواد مدرسة فرانكفورت لعلم الاجتماع، يورغن هابرماس. ركّزت مقالة كيسنجر على شكل النظام السياسي الذي سيكون عليه العالم، مع الإشارة سريعا إلى التغيرات الاجتماعية، بينما ركزت المقابلة مع هبرماس على التغيرات التي ستحدثها جائحة كورونا على النظام الاجتماعي. 
تحت عنوان جائحة كورونا ستغير النظام العالمي إلى الأبد، كتب كيسنجر عمّا سمّاه نظام ما بعد كورونا (على طريقة ما بعد الحداثة)، وأنه لا بد من استعداد لهذا النظام الجديد. وحملت مقالة كيسنجر إشارات عديدة، وتنبؤات ونصائح إلى الإدارة الأميركية القائمة لتفادي الوضع الراهن، ولتأكيد مكانة أميركا والنظام الذي أسسته. ويشير كيسنجر إلى بروز القومية أساسا لمعالجة الجائحة، فكل دولة أغلقت حدودها وانكفأت على ذاتها لمعالجة المصابين ووقف انتشار الجائحة، في غياب واضح للتنسيق والتضامن. ولكنه أيضا ذهب إلى أنه لا بد من جهود واضحة للحفاظ على قيم التنوير والديمقراطية.
في المقالة والمقابلة تمت الإشارة إلى أن تحولا سيتم في الاقتصاد العالمي، من دون تنبؤ بما
 سيكون عليه شكل هذا الاقتصاد. وبقراءة متأنية بشأن الوضع الراهن، ثمّة ملاحظات ربما تحمل تنبؤا عما سيكون عليه الوضع الاقتصادي العالمي الجديد. ... مع هزيمة النيوليبرالية أمام فيروس كورونا، تلفت الانتباه الدول ذات النظام الاشتراكي الديمقراطي (مثل ألمانيا والنمسا)، إلى جانب دول الشمال الأوروبي (مثل الدنمارك وأيسلندا والنرويج والسويد وفنلندا) والتي تتبنى نظام الرفاهية الشاملة والمفاوضة الجماعية على المستوى الوطني، مع نسبة عالية من القوى العاملة النقابية، وفي الوقت نفسه، تقوم على الأسس الاقتصادية لرأسمالية السوق الحرة. يعني أن لديها شكلا من "الرأسمالية اللطيفة"، ومستويات منخفضة من عدم المساواة، كما أنها دول رفاهية سخية، وتركيز الدخول المرتفعة فيها منخفض.
حتى اللحظة، أفلت هذان النموذجان من الوقوع في الأزمة على الطريقة الأنجلوأميركية أو الإسبانية الإيطالية، فعدد الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا في النمسا 12 ألفاً، بما يقابل حوالي 136 حالة لكل مائة ألف نسمة، وهي تفكر الآن في البدء في فتح المجال العام بصورة تدريجية، وتحت تدابير معينة، كما قال المستشار النمساوي قبل أيام. في الوقت نفسه، النموذج الألماني المحير فعليا، على الرغم من ارتفاع الإصابات التي وصلت إلى مائة ألف إصابة، ولكن عدد الوفيات قليل جدا مقارنة بدول أخرى.
بشأن مقالة كيسنجر وحديثه عن تشكل نظام ما بعد كورونا، وأنه لا بد من الحفاظ على قيم التنوير والديمقراطية، هناك من يرى أن النموذج الصيني هو الذي ستكون له الغلبة وسيكون سيد العالم في الفترة المقبلة، أي النموذج الشيوعي المنغلق (في الحقيقة هو شيوعي اسما). ولكن ملاحظة ما يحدث الآن، وما قامت بفعله الصين في الفترة الأخيرة، خصوصا في عملية إخفاء الحقيقة المتعلقة بالفيروس وانتشاره، تجعل دول العالم الغربي، ومنها أميركا، تعيد التفكير في عملية توطين الصناعة الوطنية بصورة أكبر، وعدم إلقاء نفسها في أحضان نظام شيوعي مغلق يقوم بهذه الممارسات المضللة، وفتح المصانع هناك بسبب الاعتماد على عمالة رخيصة منخفضة الأجر، ما يعني أن هذا الأمر سيتغير، وسيكون هناك اعتماد علي موزعين محليين، وبالتالي سيتبعه تغير اقتصادي كبير، لأن ما كشفته جائحة كورونا هو تفرّد الصين بالإنتاج في تلك الأزمة، وجنيها أرباحا عديدة، على الرغم من أنها هي السبب الرئيسي في تفاقم الأزمة بهذه الصورة وبهذا الشكل، بسبب التضليل الذي مارسته.
في المقابل، ستمنع الجماهير، التي اعتادت الديمقراطية والحرية ودولة الرفاه، تسيّد أي نظام قمعي في دولها، على غرار النظام الصيني. هزيمة النيوليبرالية وعدم تسيد النظام الصيني يعطيان 
فرصة للنظام الاشتراكي الديمقراطي (النموذج الألماني والنمساوي)، أو نموذج دول الشمال الأوروبي، في عالم ما بعد كورونا. وهذا لا يعني اختفاء الرأسمالية وأن الشيوعية ستسود، وأن ماركس سيبعث من قبره، أو أنه سيتم "بناء مجتمع اشتراكي". هذا لن يحدث فهو ليس الهدف، أو أنه معاد قولبته بطريقة رأسمالية متقدمة، وبالتالي لن تكون الاشتراكية هي الحل على طريقة الإسلام هو الحل، لماذا؟ لأن يسار الرفاه الصاعد في أميركا وبريطانيا والبرتغال وغيرها عاجز عن توسيع تحالفاته الاجتماعية، وقد اتضح هذا مع هزيمة زعيم حزب العمال، جيريمي كوربين، في الانتخابات البريطانية في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وانسحاب السيناتور الديمقراطي، بيرني ساندرز، من سباق الرئاسة الأميركي لصالح جو بادين. ولذا يمكن أن يكون النموذج الاشتراكي الديمقراطي أو الشمال الأوروبي صاحب الفرصة في عالم ما بعد كورونا. ولن يكون هذان النموذجان ضد إيقاف عجلة العولمة الاقتصادية والتكنولوجيا، ولكن الأسس التي يقومان عليها ستجعل التفكر المسيطر على المستوى العالمي هو الوصول إلى مستوى أو حد أدنى عالمي للدخل، إلى جانب مجانية التعليم والنظام الصحي، على طريقة الاشتراكية الديمقراطية، ولن يتم هذا إلا من أجل مواجهة التدهور، خصوصا على مستوى فقدان الوظائف والركود مع عدم إيقاف عجلة العولمة التجارية ومعدلات الاستهلاك، فبالتالي لا النموذج الصيني القمعي ولا النموذج الاشتراكي الذي يرى من كومونة باريس نموذجا هو من ستكون له الفرصة للتسيد وحكم العالم.
.. الأزمة قائمة، وكل يوم تفرض واقعا جديدا والاحتمالات كلها مفتوحة.
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.