عالمنا وصورته

09 ابريل 2016

سالغادو: جنسنا لا يستحق أن يعيش (16فبراير/2016/Getty)

+ الخط -
يُمكن لصورةٍ، قد يُراد لها أن تكون عابرة، تقرير مصير وطن، أو مجتمع، بمجرّد التركيز عليها، وقد تكون سبباً أساسياً حتى في تغيير أنماط تفكيرية، وإحداث ثورةٍ مجتمعيةٍ محدّدة. وقد ترسخت بعض الصور في لاوعينا، لوحة معبّرة عن حدث أو وطن أو بيئة، سواء لقسوتها التراجيدية أو لمثالية إظهارها سعادةً ما. الأمثلة كثيرة في مسار تاريخ ما بعد اختراع كاميرات التصوير. مشهد الطائرة التي اخترقت أحد مبنيي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 الأميركي، لا يُمكن أن يُنسى، هناك وُلد جيل جديد في الولايات المتحدة. في الصين، لا أحد في وسعه تجاهل صورة وقوف شخص أمام رتل دبابات في ساحة تيان آن مين في بكين (1989)، ومنعه إياها من مواصلة سيرها. تهديم جدار برلين (1989)، وتدفق ألمان الشرق لملاقاة أندادهم في الغرب. صورة فتاة السودان التي كان ينتظر أحد النسور وفاتها للانقضاض عليها (1993). الهاربون في حرب جورجيا (2008)، لاجئو جبل سنجار العراقي (2014)، وأخيراً اللجوء السوري العظيم في السنوات الأخيرة إلى دول الجوار وأوروبا، وانتشار صور الجثث المتناثرة في البحر أو شطآن الجزر الأوروبية.
كلها صور خلّدت إنسانيتنا الناقصة، بدلاً من تطويرها والخروج من مآسي تلك الصور إلى استيلاد سعادتها. عن هذه الإنسانية، يقول المصوّر البرازيلي سيباستياو سالغادو "جنسنا لا يستحقّ أن يعيش". لم يقل سالغادو كلامه عن عبث. حمل الرجل كاميرته، وجال في أكثر من 120 بلداً. راقب آثار تداعيات المجازر المروّعة في رواندا بين الهوتو والتوتسي (1994)، ورعبها المنتشر في منطقة البحيرات الخمس الأفريقية، وتابع المجاعة الإثيوبية (1983 ـ 1985)، واخترق الغابات الأمازونية في موطنه، البرازيل، وتسلّق قمم جبال الأنديز في القارة الأميركية الجنوبية، وراقب حياة القبائل في أندونيسيا، كما كان شاهداً على دموية حرب يوغوسلافيا السابقة (1992 ـ 1995). صوّر سالغادو وجوهاً كثيرة، متأمّلاً أشكالها التي حفرتها السنين والطبيعة المناخية، ومركّزاً على دواخل العيون. دفعه هذا كله إلى اعتبار أن الحياة تختلف بين مكانٍ وآخر على الأرض بقوة، إلى درجة وكأن كوكبين متناقضين يدوران في مدار واحد.
لم يتغيّر شيء بعد كل تلك الصور، فعدا عن فوز سالغادو وغيره بجوائز عالمية، بقي العالم جامداً لا يتحرّك. الجماد فناء ذاتي، أما الحركة فحياةٌ مستدامة. الجماد في محاربة مسببات الأزمات، مسار يؤدي إلى موت جماعي، أما مواجهة الأزمات، فحركةٌ أقل ما يُقال عنها إنها "إنسانية".
بعد صور سالغادو، انقسمت يوغوسلافيا السابقة إلى ست دول. شبح مجازر رواندا يبرز في بوروندي، وغيرها من دول الجوار الأفريقي، وصولاً إلى الصومال. الجوع عنصر أساسي في تسخير الأفراد والمجتمعات لخدمة الحروب، أياً كان شعارها، سواء تابعة لتنظيمٍ متطرّف دينياً أو لتنظيم عقائدي. بات اللجوء السوري سلعة متناقلة بين الشرق وأروقة الأمم المتحدة في الغرب، وكأنه باب للتجارة بالبشر. يريد الجميع أن يكسب عن حياة آلاف المهددين بالموت، من دون السؤال عنهم، ما إذا ماتوا أو ظلّوا على قيد الحياة. تماماً كما حصل، بصورة أكثر استحياءً، مع اللجوء الفلسطيني بعد نكبة عام 1948. لا زال الفلسطينيون من دون وطن، ويسعى بعضٌ إلى توظيفهم في مشاريعه الخاصة.
تكفي قصة سالغادو لإدراك أن كل الصور التراجيدية في عالمنا لم تدفعنا إلى تغييره نحو مسارٍ أكثر إنسانية. الجوع مستمرّ، واللجوء لا ينتهي، والتفاوت الاقتصادي يكبر، والتفرقة على أسس دينية أو عرقية أو سياسية أو قومية، متواصلة. السلاح يُباع بكثافة، ولا مجال لوقف صناعته. التسابق في الإمعان في تشويه الطبيعة، أساس فكر رأسمالي جشع، لا ليبيرالية متنوّرة. لا يهزّ هذا العالم أمر أكثر من قوة الغرائزية، بدلاً من سحر العقل.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".