ولتحقيق ذلك، يدعونا الفاسي إلى عدم التكلّس في اجتهاد الأولين وما ورثناه عنهم. كما يرى أن "الصدقة خير وبركة على كل حال ولكن الأمر يتطلب منّا أكثر من ذلك، يتطلب منّا أن نفكر في أن هؤلاء البائسين ذوو حق مفروض على المجتمع، وأن واجبنا جميعاً أن نبحث لهم عن الوسائل التي يستطيعون بها حياة شريفة يحسون معها أنهم يكسبون كما نكسب، ويربحون كما نربح، وأنه ليس لأحد عليه فضل إلا فضل التعاون المتبادل والتضامن المشترك".
لكن الدولة الوطنية التي أعقبت الاستعمار، تحوّلت إلى دولة الصدقة الوطنية بامتياز، وليس إلى دولة المواطنة التي طلبها علال الفاسي وجيله من المقاومين، ففي كل عيد ديني، يخرج رجالات السلطة لتقديم الصدقات للفقراء والمعوزين، في تأبيد لاقتصاد الذل وسلطة القهر.
يكتب علال الفاسي في كلمات أكثر من واضحة: "يجب أن نكيّف نفوسنا بحسب ما يقتضيه العدل والإحسان كما يفهمهما الإنسانيون في هذا العصر لا كما فهمهما أسلافنا في عصر الانحطاط الأخير".
وفي معرض حديثه عن واقع الدول العربية، يتحدّث عن انعدام ما يسميه "التربية الديمقراطية"، وهو أمر نقف عليه حتى يومنا هذا، وذلك لأن الاستبداد يفرّخ لتربية من نوع آخر، هي تلك التي أسماها عبد الله حمودي في تحليله للأنظمة السلطوية في شمال أفريقيا بخطاطة الشيخ والمريد.
وعلاوة على ذلك، يدعونا في كتابه إلى تجاوز عادة الارتجال التي تحكمنا من السياسة إلى الإبداع الفني، وتطوير فكر مناقض لمنطق الشارع. لكن ما الذي يعنيه بمنطق الشارع؟ إنه في رأيه: "مجموعة من النظريات التي تكوّنها أجيال مختلفة، فيها الصحيح وفيها السقيم، ولكن الناس يتلقفونها قضايا مسلمة دون نظر ولا إمعان، لأنهم سمعوها في طفولتهم وسمعوها في شبابهم وسمعوها وهم شيوخ محترمون، فوقرت في نفوسهم كشيء مقدّس لا سبيل إلى المساس به ولا إلى الدعوة لمخالفته" ويضرب مثلاً هنا بتغلغل هذا المنطق في الدين، وكيف يملؤه بالخرافات، ويجعل الناس تنظر إلى الإصلاح ككفر وإلحاد.
كما يدعو الفاسي إلى الوقوف إلى جانب حرية التعبير، ضد العقليات الفاشية التي تريد فرض الرأي الواحد، ويضرب المثل هنا بالتجربة النازية والكارثة التي انتهت إليها، معتبراً أن الدين الإسلامي الذي حمل الإنسان مسؤولية إعمار الأرض، كرّمه بالحرية.
يكتب منتقداً: "... ولكن تكوّنت فينا أيضاً أنواع من النازية في صور مختلفة، فوجد بيننا دعاة للجمود وأنصار للتقليد ومحتكرون للفكر والمعرفة ينشرون بين العامة من قومنا أنهم لا يستطيعون أن يتدخلوا في ما لا يعنيهم من المسائل التي يجب أن تظل مقصورة على الشيوخ الروحيين أو الرؤساء الماديين الذين يستطيعون فهمها وإدراكها والبت فيها. وهكذا استطاع هؤلاء القوم عن طريق التخدير والتمويه أن ينزعوا من الأغلبية الساحقة من قومنا أحسن ما لديهم وأغلاه وهو الفكر، فأصبحوا يعتقدون أن واجب المريد أن يكون أمام شيخه كالميت بين يدي غاسله...".
وفي سياق آخر، كتب يقول: "إن الأجيال المظلمة التي مرّت علينا نزعت منا كل الحقوق التي خوّلنا الله إياها، وحرمتنا من نعمة الفكر التي هي أساس الحياة السعيدة، وهكذا فقدنا حاسة النقد والإنكار وأصبحنا نستصعب وجودها عند البعض منا، إن التقزز الذي نحس به عند ما يوجه إلينا أحد نقداً ما، أو الامتعاض الذي نشعر به عندما نقرأ أفكاراً مباينة لأفكارنا. إن ذلك كله دليل على الاضطهاد العظيم الذي وجدته الحرية في بلادنا سواء من ذوي الأمر المنتسبين للدين أو من ذوي الثروة والجاه، لأن الذين يألفون رؤية المناظر البشعة يعتادونها فلا تنكرها أبصارهم بل ربما طلبوها عند فقدها، كذلك الذين يتعوّدون النفاق ينتهون بنسيان نفاقهم، أي يصبح ما يتظاهرون به جزءاً من أفكارهم ومبادئهم".
دعا الفاسي إلى اعتبار حرية الفكر جزءاً من العقيدة، في وقت كان غيره بعد مستغرقاً في بكاء الخلافة الإسلامية، ونافح عن اعتماد الحوار منهجاً في التفكير، معتبراً أن ذلك طريق مجتمعاتنا للتحرّر من مختلف أشكال العبودية. يكتب قائلاً: "إن دواء الحرية صعب، ولكنه وحده الدواء الصحيح".
ومنذ ذلك الوقت طالب علال الفاسي بتحرير وسائل الإعلام من احتكار الدولة، والتحرّر من كل فكر غير الفكر المؤمن بالحرية كما يقول، كما لم يفته تحذيرنا من الخلط بين العصرية والمعاصرة وبين المحافظة والرجعية، فالعصرية التي قد تعني في قاموسه التحضر ليست بالضرورة مرتبطة بعصرنا الحالي وإنجازاته، بل قد نجد في الماضي من التحضر والعصرية ما لا نجده اليوم في أنظمة معاصرة.