أخذت مدينة حلب الموشح وطوّرته، وكان لهذا الفن شيوخه، أو "شيوخ الكار"، كما يسمّونهم. ومن أشهر هؤلاء، الشيخ عمر البطش (1885 - 1950)، وقد تتلمذ على يديه كثيرون، مثل حسن بصّال وعبد القادر حجار وصباح فخري، وكذلك صبري مدلّل الذي يعتبر قدوة للموشحات والمدرسة الحلبية.
وُلدَ صبري مدلّل قبل 100 عام، في واحد من أهمّ أحياء حلب (حيّ المشارقة). كان والده متديناً، يأخذه معه إلى المساجد والزوايا، ليحضر برفقته حفلات الأوراد والأذكار والأناشيد الدينية. وعندما بلغ الطفل السن التي تسمح له بالذهاب إلى الكتّاب، أخذه والده إلى أحد المشايخ ليعلّمه أمور الدين، ويحفظه القرآن، ويعلمه كتابة الخط والدوبيا ومسك الحسابات. هكذا، إلى أن اكتشف الشيخ فيه جمال الصوت،عندما كان يرتل القرآن، فكرَمه، وذلك بأن يدعو المصلين إلى صلاة الظهر من فوق مئذنة المسجد القصيرة.
ارتقى الولد مئذنة المسجد، وصار ينادي "الله أكبر"، وراح يترنم بمفردات الأذان، وقد اجتمع الناس أسفل المئذنة، وراحوا ينصتون إلى صوته الرخيم الذي يأتيهم من السماء. هكذا كان يفعل كلّ يوم، إلى أن قرّر الشيخ أن يعلّم الولد الصغير أصول الغناء والقدود والموشحات، وهو أمر لم يكن سهلاً في تلك الأيام.
آنذاك، كان قد عُرف الشيخ عمر البطش بتلحين الموشّحات بين معاصريه من أصحاب الطرب والغناء، وقد سمع بغناء الصبي؛ فقرّر أن يسمعه، وعندما سمعه قرّر أن يضمه إلى جوقة المغنين والمنشدين، وأصبح صبري مدلّل طالباً نظامياً في مدرسة الشيخ عمر البطش؛ فدرّبه هذا الأخير، وعلّمه أصول الغناء والتقاسيم، وذلك بعد أن سمعه يغني موشح "كحّل السحر عيوناً"، ويترنم به، فسرّ به كثيراً، وقرّر أن يعلّمه علوم الأوزان والمقامات والضروب على أصولها... وبعد سنة من تعليمه، قال له الشيخ عمر البطش: "لن أخذ منك أجرة الدرس، لك مستقبل يا ولدي، سآخذك معي، لتتعلّم الكار جيداً". وهكذا، صار يأخذه معه إلى حفلات الطرب والغناء، صبري يغني، والأستاذ الشيخ وراءه على الرّق.
ثم صار التلميذ يمسك الحفلات، ويأخذ عليها خمس ليرات "وظيفة" (أي أجر)، يعطي عمر البطش ليرتين، ويأخذ الباقي، وأصبحت شهرة المغني الجديد تملأ حلب إلى أن تمّ افتتاح الإذاعة، وبدأت بوادر الحرب الثانية تلوح في الأفق.
أخذ الشيخ عمر البطش تلميذه النجيب إلى مدير الإذاعة في حلب، وأسمعه موشحاً، فسرّ المدير، وطلب إليه أن يداوم ابتداءً من مساء اليوم التالي، وكذلك توظف عمر البطش وكثير من الفنانين الحلبيين، ليقدّموا وصلة كلّ أسبوع، وقد عمل جميع الفنانين في تلك الفترة بروح فنية عالية. كان كلّ واحد ينتظر وصلته الغنائية في الإذاعة الحلبية بروح متوثبة، وتحفّز مشوب بالقلق، خوفاً من الفشل، وكان الخطأ يعني نهاية الفنان ونهاية الفرقة الموسيقية التي يعمل فيها. وقد عمل الشيخ عمر البطش وفرقته في حلب على إحياء التراث، بما فيه من موشحات وقدود ونوبات، وكان مغني الفرقة دائماً الشاب صبري مدلّل، وقد احتج مرّة لمدير الإذاعة؛ فهو لا يأخذ سوى راتبه من الإذاعة، بينما يأخذ غيره أربعين ليرة على كلّ حفلة، فقال له المدير: "الموضوع يحتاج إلى قرار من المدير العام في دمشق". فحمل نفسه إلى دمشق، وفحصته لجنة تتكوّن من الفنانين: رفيق شكري، ويوسف بتروني، وعمر النقشبدي، وغيرهم. أسمعهم صبري على أنغام الرصد، ثم باشر بالليالي، وأطربهم بموشح العذارى المائسات، وكان يغير النغمات صعوداً وهبوطاً، فأعجبوا بأدائه، وسلمه المدير كتاباً رسمياً يباشر فيه الحفلات في الإذاعة، وغيرها. راح اسمه يظهر في إعلانات المجلات.
مرّة، حضر والده المتدين الورع إلى مبنى الإذاعة ورأى ولده بين الفنانات، فأخبره بأنه غير راضٍ عن هذه المهنة التي تجلب العار له ولولده. ومن يومها، ترك صبري الإذاعة ملبياً رغبة أبيه، لينصرف إلى تأسيس الفرق الدينية التي راحت تؤدّي في مدائح نبوية فقط، من أجل رضى الوالد، وأصبحت الفرقة من أحسن الفرق في حلب. يقول محمّد قدري دلال عن صوته: "حين تصغي إلى غنائه، تحسبه تغريداً؛ إذ إنّ فيه من الإحساس باللحن ما يجعلك تحلّق رغم أنه أوتي صوتاً كامل الرجولة، واجتماع للقوة والمساحة والحسّ في صوت واحد يعدُ من النوادر". يضاف إلى كلّ ذلك جمال الصوت في كلّ مستوياته، لكن الجمالية لا تكتمل إلا إذا رافق نقاء الصوت وعلو الحسّ فصاحة اللسان وصحة الإعراب، ووضوح اللفظ وسلامة مخارج الحروف، كي تصل الكلمة إلى مسامعها؛ فتحتل مكانها في الوعي، وتترك أثرها في القلب والعفل والروح.
اقــرأ أيضاً
ونورد هنا قصيدة يتكرّر غناؤها في حفلاته: "يا قلبُ أنت وعدتني في حُبِّهم/ صبراً فحاذر أن تضيق وتضجرا. إنّ الغرام هو الحياة فُمتْ به/ صباً فحقُّكَ أن تموت وتُعـــــــذرا".
لاحقاً، سمعه كريستان بوخه، وهو أحد الفرنسيين في مسجد الكلتاوية في حلب، وطلب إليه أن يذهب إلى فرنسا معه، هو وفرقته؛ فذهب وأحيا حفلتين، وقد سرّ الفرنسيون من أدائه نشيد "أحمد يا حبيبي"، وسجلت على أسطوانة، وطبعت باسمه. هكذا، لتأتيه الدعوات من كلّ مكان في العالم. ومن الجدير بالذكر أنّ المخرج محمّد ملص قد انتهى من تصوير فيلم وثائقي عن الفنان لإحدى القنوات الفرنسية، هو فيلم "مقامات المسرّة". رحل صبري مدلّل في عام 2006، في حلب أيضاً، حيث وُلد ونشأ.
وُلدَ صبري مدلّل قبل 100 عام، في واحد من أهمّ أحياء حلب (حيّ المشارقة). كان والده متديناً، يأخذه معه إلى المساجد والزوايا، ليحضر برفقته حفلات الأوراد والأذكار والأناشيد الدينية. وعندما بلغ الطفل السن التي تسمح له بالذهاب إلى الكتّاب، أخذه والده إلى أحد المشايخ ليعلّمه أمور الدين، ويحفظه القرآن، ويعلمه كتابة الخط والدوبيا ومسك الحسابات. هكذا، إلى أن اكتشف الشيخ فيه جمال الصوت،عندما كان يرتل القرآن، فكرَمه، وذلك بأن يدعو المصلين إلى صلاة الظهر من فوق مئذنة المسجد القصيرة.
ارتقى الولد مئذنة المسجد، وصار ينادي "الله أكبر"، وراح يترنم بمفردات الأذان، وقد اجتمع الناس أسفل المئذنة، وراحوا ينصتون إلى صوته الرخيم الذي يأتيهم من السماء. هكذا كان يفعل كلّ يوم، إلى أن قرّر الشيخ أن يعلّم الولد الصغير أصول الغناء والقدود والموشحات، وهو أمر لم يكن سهلاً في تلك الأيام.
آنذاك، كان قد عُرف الشيخ عمر البطش بتلحين الموشّحات بين معاصريه من أصحاب الطرب والغناء، وقد سمع بغناء الصبي؛ فقرّر أن يسمعه، وعندما سمعه قرّر أن يضمه إلى جوقة المغنين والمنشدين، وأصبح صبري مدلّل طالباً نظامياً في مدرسة الشيخ عمر البطش؛ فدرّبه هذا الأخير، وعلّمه أصول الغناء والتقاسيم، وذلك بعد أن سمعه يغني موشح "كحّل السحر عيوناً"، ويترنم به، فسرّ به كثيراً، وقرّر أن يعلّمه علوم الأوزان والمقامات والضروب على أصولها... وبعد سنة من تعليمه، قال له الشيخ عمر البطش: "لن أخذ منك أجرة الدرس، لك مستقبل يا ولدي، سآخذك معي، لتتعلّم الكار جيداً". وهكذا، صار يأخذه معه إلى حفلات الطرب والغناء، صبري يغني، والأستاذ الشيخ وراءه على الرّق.
ثم صار التلميذ يمسك الحفلات، ويأخذ عليها خمس ليرات "وظيفة" (أي أجر)، يعطي عمر البطش ليرتين، ويأخذ الباقي، وأصبحت شهرة المغني الجديد تملأ حلب إلى أن تمّ افتتاح الإذاعة، وبدأت بوادر الحرب الثانية تلوح في الأفق.
أخذ الشيخ عمر البطش تلميذه النجيب إلى مدير الإذاعة في حلب، وأسمعه موشحاً، فسرّ المدير، وطلب إليه أن يداوم ابتداءً من مساء اليوم التالي، وكذلك توظف عمر البطش وكثير من الفنانين الحلبيين، ليقدّموا وصلة كلّ أسبوع، وقد عمل جميع الفنانين في تلك الفترة بروح فنية عالية. كان كلّ واحد ينتظر وصلته الغنائية في الإذاعة الحلبية بروح متوثبة، وتحفّز مشوب بالقلق، خوفاً من الفشل، وكان الخطأ يعني نهاية الفنان ونهاية الفرقة الموسيقية التي يعمل فيها. وقد عمل الشيخ عمر البطش وفرقته في حلب على إحياء التراث، بما فيه من موشحات وقدود ونوبات، وكان مغني الفرقة دائماً الشاب صبري مدلّل، وقد احتج مرّة لمدير الإذاعة؛ فهو لا يأخذ سوى راتبه من الإذاعة، بينما يأخذ غيره أربعين ليرة على كلّ حفلة، فقال له المدير: "الموضوع يحتاج إلى قرار من المدير العام في دمشق". فحمل نفسه إلى دمشق، وفحصته لجنة تتكوّن من الفنانين: رفيق شكري، ويوسف بتروني، وعمر النقشبدي، وغيرهم. أسمعهم صبري على أنغام الرصد، ثم باشر بالليالي، وأطربهم بموشح العذارى المائسات، وكان يغير النغمات صعوداً وهبوطاً، فأعجبوا بأدائه، وسلمه المدير كتاباً رسمياً يباشر فيه الحفلات في الإذاعة، وغيرها. راح اسمه يظهر في إعلانات المجلات.
مرّة، حضر والده المتدين الورع إلى مبنى الإذاعة ورأى ولده بين الفنانات، فأخبره بأنه غير راضٍ عن هذه المهنة التي تجلب العار له ولولده. ومن يومها، ترك صبري الإذاعة ملبياً رغبة أبيه، لينصرف إلى تأسيس الفرق الدينية التي راحت تؤدّي في مدائح نبوية فقط، من أجل رضى الوالد، وأصبحت الفرقة من أحسن الفرق في حلب. يقول محمّد قدري دلال عن صوته: "حين تصغي إلى غنائه، تحسبه تغريداً؛ إذ إنّ فيه من الإحساس باللحن ما يجعلك تحلّق رغم أنه أوتي صوتاً كامل الرجولة، واجتماع للقوة والمساحة والحسّ في صوت واحد يعدُ من النوادر". يضاف إلى كلّ ذلك جمال الصوت في كلّ مستوياته، لكن الجمالية لا تكتمل إلا إذا رافق نقاء الصوت وعلو الحسّ فصاحة اللسان وصحة الإعراب، ووضوح اللفظ وسلامة مخارج الحروف، كي تصل الكلمة إلى مسامعها؛ فتحتل مكانها في الوعي، وتترك أثرها في القلب والعفل والروح.
ونورد هنا قصيدة يتكرّر غناؤها في حفلاته: "يا قلبُ أنت وعدتني في حُبِّهم/ صبراً فحاذر أن تضيق وتضجرا. إنّ الغرام هو الحياة فُمتْ به/ صباً فحقُّكَ أن تموت وتُعـــــــذرا".
لاحقاً، سمعه كريستان بوخه، وهو أحد الفرنسيين في مسجد الكلتاوية في حلب، وطلب إليه أن يذهب إلى فرنسا معه، هو وفرقته؛ فذهب وأحيا حفلتين، وقد سرّ الفرنسيون من أدائه نشيد "أحمد يا حبيبي"، وسجلت على أسطوانة، وطبعت باسمه. هكذا، لتأتيه الدعوات من كلّ مكان في العالم. ومن الجدير بالذكر أنّ المخرج محمّد ملص قد انتهى من تصوير فيلم وثائقي عن الفنان لإحدى القنوات الفرنسية، هو فيلم "مقامات المسرّة". رحل صبري مدلّل في عام 2006، في حلب أيضاً، حيث وُلد ونشأ.