شباب الربيع.. ما بعد الصدمة

26 نوفمبر 2014
أشد الأعراض خطورة فقدان الإيمان بما كان يحركنا سابقاً(Getty)
+ الخط -

يصيبنا الرصاص فيترك ندوبا تبقى معنا، نشاهد أصدقاءنا يصابون بالرصاص، فتظهر الندب في أعماقنا، أو نعيد استحضارها.

أكتب هذه السطور وما تحمله إلى أصدقاء وأخوة يجدون صعوبة في تحمل ما رأوه من قسوة في هذا العالم، لكنهم يصارعونه بابتسامة، أو ببعض الدموع ليوم آخر، وقد فقدت البعض من الذين بعد معاناة قرروا أن ينهوا حياتهم بأيديهم، ولهؤلاء جميعاً أقول، أشتاق لكم جميعا، حقاً إني مشتاق.

كرب ما بعد الصدمة، والمعروف اختصاراً بـ( Post Traumatic Stress Disorder (PTSD، يمكن أن يكون من أبرز سمات حال جيل الربيع العربي بأكمله، الذي إما تأثر بالقهر الممنهج الممارس عليه بتعسف من طرق الأنظمة البوليسية القمعية، أو طالته يد التعذيب والضرب والنتكيل، أو في أقل الأحوال سوءا وأهونها رأى أشخاص شاركوه أحلامه البسيطة يسقطون صرعى في ميادين الحرية وشوارع البحث عنها وأشلاؤهم تتناثر أمامه وحوله.

إن مجمل الصور والمشاهد التي رأيناها وشهدنا عليها منذ انطلاق الربيع العربي، والتي خبرناها جميعا سواء عبر الشاشات أو بأم الأعين، أقل ما يقال في كثير منها أنها مروعة، وحين تحضر يحضر التفكير في الخوف على الحياة، وكم هو شعور دام لدى بعضنا للحظات ولدى البعض الآخر يحضر لأيام، بينما أصبح لدى بعض الآخرين واقع معاش بطول الأيام وعرضها.

تفتت فرص الحياة الطبيعية بكل أشكالها، وهيمنت سمات ومظاهر التهجير، والتعذيب، والمضايقة في العمل، والشتم العلني والتحقير، والتهديدات المستمرة بكل أشكالها، نتيجة بعض الانتكاسات التي واجهها ربيعنا، وهذه كلها تؤدي إلى نتيجة واحدة تنعكس علينا ويمكن تعريفها بكرب ما بعد الصدمة.

أول ما لاحظته في هذا الصدد كان لدى أحد الأصدقاء، والذي كان يشتكي من أن بعد حادثة تعذيبه الجسدي وإهانته علناً بدأ يشعر بفقدان الانتماء، وأيضا بتفاقم هذا الإحساس عنده عندما يواجهه الناس بأنه يجب أن يكون ذلك المثال للمناضل، الذي يعرف في الروايات أو شاشات التلفزة، والذي يواجه كل المصاعب ولا يتأثر، بل يبقى صلبا قويا ومستمرا.

خلال الفترة التي لحقت بداية ثورات الربيع في المنطقة، والتي كان أبرز ما فيها (حكم المجلس العسكري في مصر، وتوقيع المبادرة الخليجية في اليمن، مرحلة ما بعد الانتخابات في ليبيا، تفاقم الوضع السوري) استشعرت وجود هذه الظاهرة لدى العديد من النشطاء الذين واجهوا آلة قمعية جبارة حاولت وما تزال كبت أي صوت ثوري في واقعهم، وتعرضوا لكمية كبيرة من الاعتداءات الجسدية والمعنوية، وكنت أرى تغريدات يومية تكاد تكون وصفا نمطيا لمن يعاني من كرب ما بعد الصدمة
منها مثلا: (أين الله من كل هذا؟ لم تعد تهمني البلاد أو الثورة أو العدالة في شيء. أنام فتزورني الكوابيس. يلعن أبو الشعب على أبو الثورة عليكم كلكم.) إلى آخر المطاف من مثل هذه العبارات التي تحمل إشارات يائسة ليست بالهينة.

ماذا يعني كرب ما بعد الصدمة لي؟

الأحاسيس التي تتملك الشخص بعد مروره بتجربة شديدة القسوة (تشكل تهديدا مباشرا لسلامته الشخصية)، وهي عادة تتمحور حول الانفصال عن البيئة المحيطة، وتبدأ بعد فترة بسيطة (أيام-أسابيع) من المرور بهذه التجارب. تسمى هذه المرحلة اضطراب الكرب الحاد Acute Stress Disorder وتتسم بالتالي:

• فقدان الإحساس بالذات أو بالهوية وطغيان حالة من التنكر لهما.
• الخدر، عدم التجاوب العاطفي مع المحيط.
• قلة الانتباه للعالم المحيط (حالة من الذهول).
• فقدان الإحساس بالواقع (ما يحدث لا يصدق)، وقد يكون فقدان الألفة مع محيطك المعتاد.
• ضعف الذاكرة أو عدم القدرة على تذكر تفاصيل بعض الوقائع.

خلال هذه الفترة تصحب هذه الاعراض نتائج من قبيل الاتي:
• تجنب التذكر للحادثة
• القلق، التوتر، ضعف التركيز والأرق.
• تدهور العلاقات الشخصية وتجنب الظهور الاجتماعي.

بعد المرور بالصدمة هناك ما يزيد تأثير وعمق المشكلة مثل عدم توفر دعم اجتماعي جيد، وعدم القدرة على مواجهة المشكلة، والانخراط في جلد الذات.

أما أعراض كرب ما بعد الصدمة:
• إعادة المرور بالتجربة، وهذا قد يكون: الحلم بها خلال النوم، فرض تلك الذكريات نفسها بشكل قاهر من خلال أفكار، مشاعر، أو صور.
• الشعور بألم نفسي أو جسدي عميق عند تذكر تلك الحوادث.
• تجنب عام لتلك الذكريات.
• التوتر النفسي والجسدي العام الذي ينتج عنه: الأرق، حدة الطباع، صعوبة التركيز، الفزع.
• استمرار هذه الأعراض لأسابيع وأشهر تنتج تدهورا في الوضع الاجتماعي والوظيفي.

أشد الأعراض خطورة، هي فقدان الإيمان بما كان يحركنا سابقا، والشعور بالعزلة، إذا ما أضفناها في صورة واحدة مع ما ذكر مسبقا يدخل الشخص في دوامة عميقة من الشعور بالذنب والعجز، قد لا يستطيع الخروج منها، خصوصا إذا فكرنا أن مجتمعاتنا تنظر إلى المصاعب النفسية كضرب من الدلع والرفاهية.

أضف إلى ما سبق أن حالة عدم الاستقرار الداخلي تؤدي عادة إلى تضارب وتطرف في المواقف النفسية والاجتماعية، حيث يقفز من كان مدافعا عن الحريات العامة إلى خانة دعم الاستبداد في لحظة واحدة. هذا التضارب لا يؤثر فقط على نفسية الشخص، بل على الكتلة الاجتماعية بأكملها.

*اليمن

دلالات
المساهمون