بعد الخسائر الجسيمة التي تكبّدها أهالي الإسكندرية في الأرواح والممتلكات نتيجة الطقس السيئ الذي عصف بالمدينة، مساء السبت الماضي، ألقى مواطنون وناشطون وسياسيون في محافظة الإسكندرية (شمال مصر) المسؤولية على الدولة والمحليات واتهموها بالتقاعس عن أداء وظيفتها، لا سيّما ما يضمن مواجهة مياه الأمطار الغزيرة.
وطالب هؤلاء بعدم الاكتفاء بإقالة محافظة الإسكندرية، بل بمحاكمة جميع المسؤولين عن هذه الكارثة التي كشفت عن انهيار البنية التحتية للمرافق العامة في المحافظة. وهو ما أدى إلى وفاة سبعة مواطنين وقطع طرقات وتعطل حركة المرور بصورة تامة، بالإضافة إلى غرق بعض المنازل بالسيول، وكذلك أنفاق السيارات والمشاة وكورنيش المدينة.
وكانت الإسكندرية قد تعرّضت لأمطار غزيرة خلّفت القتلى السبعة وجميعهم في المدينة. وهو ما دفع أكبر مسؤول حكومي في المحافظة الساحلية إلى تقديم استقالته إلى رئيس مجلس الوزراء شريف إسماعيل. وقد قبلها الأخير على الفور، قبل أن يقرر تكليف نائب المحافظ بمتابعة الأعمال "بصفة مؤقتة".
وكانت مديرية الشؤون الصحية في الإسكندرية قد أشارت في حصيلة أوليّة إلى أن خمسة أشخاص لقوا مصرعهم في ثلاثة حوادث منفصلة. في الحادثة الأولى، قضى طفلان في الرابعة والثامنة وشاب (29 عاماً) صعقاً بالكهرباء، نتيجة سقوط كابل كهرباء الترام عليهم. في الثانية، قضى شاب (22 عاماً) صعقاً بالكهرباء أيضاً، نتيجة سقوط كابل كهربائي داخل حفرة. أما في الحادثة الثالثة، فقضى قبطان بحري داخل سيارته التي أغرقتها المياه تحت جسر المندرة. ولفتت المديرية إلى أن جثامين الضحايا الخمسة نقلت إلى مشرحة كوم الدكة.
لقطات من المدينة
وفي مشهد يتكرّر مع كثيرين، تقف إسراء حسام، وهي تلميذة في الصف الثالث الثانوي، باكية وهي تحتضن كتبها المدرسية. هي تحاول اجتياز برك المياه بطريقة بهلوانية، للوصول إلى وجهتها ومتابعة درس خاص بمادة الرياضيات. وتقفز إسراء تارة على قطعة خشبية وطوراً على حجارة ملقاة في المياه، حتى لا تسير في برك المياه وتتسخ ملابسها. أكثر من ساعة قضتها إسراء قبل بلوغها وجهتها في المنطقة نفسها بعد معاناة. وعلّقت قائلة بكلمات بسيطة: "أعدّي الثانوية العامة، أسهل من إني أعدّي برك المياه". وتابعت أن "الإسكندرية كلها غارقة في مياه الأمطار. يعني، لما الدنيا تشتي، نوقف حياتنا؟".
في غرب الإسكندرية، كانت مها الدمرداش، وهي ربة منزل تجلس على حجر في منطقة وادي القمر، في انتظار مرور ميكروباص، لكن من دون جدوى. وهي كانت قد استغلت وجود ولديها رنا وخالد في المدرسة، لتقصد السوق وتشتري مستلزمات أساسية للمنزل، "لكنني بقيت لأكثر من خمس ساعات في أزمة وغير قادرة على الرجوع إلى بيتي بسبب عدم توفّر مواصلات، وتراكم مياه الأمطار في الشوارع". بالنسبة إلى الدمرداش، لا بدّ من إقالة كل المسؤولين عن "المهزلة" التي شهدتها الإسكندرية وليس المحافظ فحسب، قائلة: "الوزراء المختصون ورئيس الوزراء مسؤولون جنائياً عن المتوفين، بينما يتحمّل الرئيس عبد الفتاح السيسي مسؤولية سياسية". ولفتت الدمرداش إلى أن ولدَيها راحا ينتظرانها على سلّم البناية، إذ إنهما لا يملكان مفتاح الشقة. هما يعودان من المدرسة عند الرابعة عصراً، بينما هي بقيت في الشارع لغاية التاسعة مساء، "فنصف المركبات تعطلت ونصفها الثاني تعجز عن اجتياز برك المياه".
اقرأ أيضاً: حركة المرور تهدّد القاهرة بالطرش
من جهته، كان الطبيب هادي عيسى ببذلته الأنيقة ومعه حقيبته الطبية، يحاول عبثاً إيقاف أي سيارة أجرة أو ميكروباص أو غيرهما لنقله من أمام جسر كليوباترا الغارق في المياه، من دون جدوى. هو كان قلقاً، إذ إن "ثلاث حالات حرجة في انتظاري في المستشفى. وقد تلقيت اتصالاً هاتفياً من الإدارة لاستعجالي، خصوصاً أن تراكم المياه أعاق وصول طبيب زميل. أظنّ أنني أنا، أيضاً، لن أتمكن من الوصول. في هذه الحالة، سيكون المسؤول عن تدهور صحتهم هو الحكومة التي عجزت عن توفير وسائل نقل لمثل هذه الظروف". وقد أشار عيسى المتخصص في أمراض الكلى، إلى أنه "لم أكن لأغامر وأنزل من بيتي في مثل هذا اليوم، لولا وجود حالات خطرة في عيادتي في المستشفى. وأنا مسؤول عنها مهنياً وأخلاقياً، لذا اضطررت إلى المغامرة. لكنها مغامرة غير محسوبة وغير مأمونة العواقب. لو فشلت في عبور البحيرات المتراكمة من مياه الأمطار ووقفت في منتصف الطريق، لن أتمكّن من مواصلة السير إلى عملي ولا الرجوع إلى بيتي، لعدم توفّر سيارات في الشوارع، ورفض تلك العاملة التوجه إلى المناطق التي تغمرها المياه".
أما الحاج توفيق شعبان (70 عاماً)، فكان يقف وهو يسند يده إلى أحد أعمدة الإنارة، ليسترشد بالنور الصادر منها، بينما كان يمسك باليد الأخرى عصاه التي تعدّ رفيقة دربه. كان يقف والحيرة واضحة عليه، إلى يمينه بركة مياه، ومن الجهة الأخرى حفرة يعجز عن المرور من فوقها. أكثر من ساعة ونصف الساعة، وهو في مكانه ينتظر مساعدة من أحد المارة أو وصول ابنه. وقد عبّر عن خوفه: "مش عارف أمشي لا يمين ولا شمال، ولا أرى حتى الطريق أمامي، أخاف أن أقع في أي مكان وألقى حتفي". أضاف: "ما من مسؤول يهتم بكبار السنّ، ولا حتى بالصغار. الشوارع في أيام الحرب، كانت أكثر نظافة ومن دون مشاكل".
تقصير واضح
في هذا السياق، عبّر وزير التنمية المحلية الأسبق، اللواء محسن النعماني، عن استيائه الشديد من عدم تمكن محافظة الإسكندرية من التعامل مع الأمطار وسقوط ضحايا. وقال: "ثمة تقصير إداري واضح، ولا بدّ من محاسبة المقصر"، مشيراً إلى أنه "كان ينبغي على المسؤولين في المحافظة اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة تساقط الأمطار، خصوصاً مع وجود تحذيرات مسبقة".
إلى ذلك، طالب "ائتلاف دعم صندوق تحيا مصر" الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالتدخل فوراً ومحاسبة محافظ الإسكندرية، هاني المسيري، وغيره من المسؤولين المتورطين في الكارثة التي تعرّضت لها المحافظة. وقال منسق الائتلاف، طارق محمود، إن "أرواح المواطنين التي أزهقت بسبب سقوط كابل الترام في محرم بك هي برقبة المحافظ"، مؤكداً أنه سيتقدم ببلاغ عاجل ضدّه متهماً إياه "بالتسبب في القتل الخطأ بسبب إهماله الجسيم وأنه تفرغ فقط للمظاهر والشكليات مثل ترام كافيه، وغيرها من المشروعات الفاخرة التي لا تهم المواطن الغلبان".
من جهته، قال محمد عبد المقصود، وهو ناشط في حركة "شباب ضدّ الانقلاب"، إن "حكومة الانقلاب فشلت في مواجهة بعض المياه، وقد بترت أحد أصابعها المسمى بالمحافظ في محاولة فاشلة لغسل يديها من دماء الأرواح التي أهدرت بفشلها". وشدّد على أن "قرار إقالة المحافظ جاء لتهدئة الرأي العام، بينما كل الدلائل تشير إلى أن من أخطأ لم يكن المحافظ فقط بل معه وزراء ومسؤولون آخرون وصولاً للرئيس السيسي".
أما هيثم الحريرى وهو مرشّح مستقل عن دائرة محرم بك في الإسكندرية، فقال إن "ما حدث يعد مهزلة إدارية وفنية، يستلزم محاكمة كل المسؤولين وليس إقالتهم فقط". أضاف أن "المشكلة تراكمية منذ سنوات طويلة ولا تتعلق بالمحافظ، هاني المسيري، فقط"، لافتاً إلى أن "الخسائر فادحة، وقد غرقت بعض البيوت تماماً في مياه الصرف الصحي. وهو ما يستلزم تحقيقاً". وبالفعل باشرت نيابة شرق الإسكندرية في تحقيق موسع عن حالات الوفاة.
إلى ذلك، اتهم أهالي الضحايا المحافظ بالتسبب في مصرع أبنائهم، بسبب عدم اتخاذه الإجراءات اللازمة والاحتياطات من أجل التصدي للكوارث في حال تعرّض الإقليم لموجات من الأمطار والسيول الشديدة. واتهموا كذلك مسؤولين تنفيذيين في الإسكندرية. وطالبوا بإحالة الجميع إلى محاكمة عاجلة من أجل الاقتصاص لأبنائهم.
تجدر الإشارة إلى أنه بعدما أجرت معايناتها وسؤالها أهالي الضحايا وانتداب مفتش صحة ولجان مختصة لتحديد المسؤولية الجنائية تمهيداً لتقديم المسؤولين عنها إلى المحاكمة العاجلة، صرّحت النيابة أن أسباب حالات الوفاة كلها تعود إلى الصعق الكهربائي في مناطق مختلفة من الإسكندرية.
اقرأ أيضاً: "عصافير" في جامعات مصر