سورية.. بين البشر والحجر
دعت البلغارية إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، من مقر المنظمة في باريس، وعلى هامش لقاء دولي حول التراث المادي المهدد في سورية وفي العراق، إلى إيجاد "مناطق حماية ثقافية"، وتحييد المناطق الأثرية في البلدين من أتون المعارك الجارية فيهما. وقد اقترحت أن يتم البدء بتجربة هذا المشروع في محيط الجامع الكبير/ الأموي في حلب، والذي تعرض لأضرار فادحة في الأشهر الماضية، من جرّاء المعارك الدائرة حوله، حيث فقد مئذنته الكبرى. وقد دانت السيدة المديرة، أيضاً، الهجمات ضد المواقع الثقافية، وتهريب اللقى الأثرية الذي يمكن اعتباره، حسب قولها "جزءاً من استراتيجية تطهير ثقافي، جرى التفكير فيها جيداً، وهو تطهير يتمتع بدرجة نادرة من العنف".
تقام هذه المؤتمرات بشكل متكرر في الآونة الأخيرة في إطار التوجه الدولي، المحمود والمشكور روسياً وإيرانياً، إلى حصر المسألة السورية بمواجهة جماعات متطرفةٍ، بعيداً عن خلفيات المشهد بعمومه وتعقيداته وتأثيراته. وبعيداً عن دور الطرف الآخر، والأساسي في المقتلة السورية، المتمثّل بنظامٍ، اختار منذ اللحظة الأولى، لغة العنف. فالأمم المتحدة التي لا تكلّ ولا تملّ من التعبير عن قلقها بلسان أمينها العام بان كي مون، تواجه "مؤتمرياً" خطر داعش التي لا تتورع، فعلاً، عن القيام بأبشع الجرائم بحق الإنسان. فهي منظمة إرهابية تتمدد كالسرطان ليس جغرافياً فحسب، بل و "فكرياً"، وتتميّز بأنها تعتبر أن الثقافة، بتكويناتها كافة، ما هي إلا رجسُ من عمل الشيطان. فما الضير، إذن، إن تحوّل القلق الأممي الفجّ والمتكرر بلا ملل، ولا خجل، إلى خطة عمل بيروقراطية واضحة، لمواجهة خطر هذه العصابات في مجال حماية الآثار والتراث الإنساني والموروث الثقافي؟
من خلال اجتماعات أكثر من 500 خبير دولي عدة أيام في ظلال برج إيفل، توصّل المجتمعون إلى ضرورة تطبيق الميثاق الدولي المتعلق بحماية المواقع الثقافية في حالات النزاعات المسلحة الذي أقر سنة 1954، وجميع إضافاته وتعديلاته اللاحقة. حسناً، وماذا أيضاً؟ قرر المجتمعون السعي إلى إنزال أقسى العقوبات بمن يهاجم، بشكل مقصود، المواقع الأثرية والمراكز الثقافية (لم تذكر في الحيثيات معارض الفن التشكيلي، ولا صالات الموسيقى...). حيث تعتبر هذه العمليات الحربية ضد هذه المواقع جرائم حرب وردت في اتفاقية روما التي وضعت أسس المحكمة الجنائية الدولية. كما أكّد المشاركون والمشاركات في اللقاء على دعم اقتراح بتعزيز المنع الدولي لتجارة الآثار القادمة من سورية.
وفي اجتهادٍ سياسي متميّز، اعتبرت المديرة العامة "أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة"، القائمة في سورية، وفي هذا التصريح، إعادة اكتشاف العجلة، كما يبدو. لكنها أرفقت هذه "البديهية" المُجمع عليها من جميع من يعتنون بفهم المقتلة السورية منذ سنوات، ولا تحتاج إلى مؤتمرات ثقافية، للتوقف عندها وتأكيدها، بإضافة تربط ربطاً غريباً بين المفاهيم. فهي اعتبرت، ولاحقاً لموضوعة الحل العسكري، بأنه "للنضال ضد التعصب، يجب، أيضاً، تعزيز التربية التي تساعد على مواجهة الكراهية، وحماية التراث، وعلى تكوين هوية مشتركة". فالخطر القائم، من وجهة نظرها، والذي لا يوجد فقط حل عسكري له، هو خطر الجماعات الإرهابية المتطرفة. إنه خطر التعصب المتنامي في ظل المقتلة السورية. أما الأخطار الأخرى الناجمة عن قصف المدنيين والبنى التحتية وبراميل الديناميت، فلا ذكر لها ألبتة في أي سطر من تصريحات السيدة المُصرّح بها، في مواقع المنظمة الأممية. ولا توجد أية مسؤولية لقوى النظام السوري في الاعتداء على أهم صانع للتراث البشري، وهو الإنسان.
كلامٌ لا يملّ أصحابه من تكرار مفاصله، المنوّه عنها في أدبيات الأمم المتحدة والصالحة لكل زمان ولكل مكان. كلام حقٍ تتبناه المنظمات الأممية، لا يراد به إلا تبرئة الذات من انعدام الحسّ بالمسؤولية، القابع في أروقة البيروقراطية الأممية. لا جديد فيه، ولا طعم له، ولا رائحة. إلا أنه، وفي سابقة "أممية" في الربط الأعرج، ندّدت المديرة العامة، وفي جملة واحدة "بالاعتداءات ضد الأقليات والتراث الثقافي". هي، إذاً، تتبنّى الخطاب السياسوي الغربي، المنتشر كالنار في الهشيم، في الآونة الأخيرة، والذي لا يهتم إلا بسورية الأقليات، وليس بسورية الوطن والمواطن. والعجيب هذا الربط الغريب بين الأقليات والآثار، والذي يُحيلنا إلى تضخم موضوعة الأقليات، في عملية بناء موقف غربي من الأحداث السورية.
أن تهتم الأمم المتحدة بالتنوع الديني واحترام المعتقدات وسائر الاختلافات الثقافية والعرقية، لهو من صلب مهامها، ولكن، أن تصمت (مهما ادعت العكس) طوال سنين عما يجري لسائر السكان لتستيقظ على مسألة الأقليات، فإنها تدخل في التسويق لخطاب فئوي، مناسب لكل من لا يريد أن تتوقف المقتلة السورية.
في موازاة المشهد الباريسي/ الأممي، تناقلت الأخبار شريطاً مصوراً، يُظهر قصفاً بدائياً وأعمى وأبله، لقلعة حلب التاريخية من متمردين، يعتبرونها موقعاً للنظام. الجميع يساهم في دوران عجلة التدمير والموت والجهل. أمميون ونظاميون ومتمردون. تنازل العقل عن جميع اللاعبين الأساسيين في المشهد السوري.