ذات يوم أبدى النحات والرسام الكويتي سامي محمد (1943) أسفه لأن أعماله النحتية لم تظهر بحجمها الطبيعي، ولم تحتل مكانها في الساحات والميادين العامة، وظلت سجينة أحجام بمقاييس مصغرة في ردهة متحف أو صالة عرض، أو صفحة كتاب.
وها هو اليوم، بعد نحو خمسين عاماً من النحت، بداية باستخدام صخور البحر وطينه، ثم استخدام الحجر تارة والبرونز تارة أخرى، فالرسم بالألوان المائية والزيتية، يشهد معرضاً استعادياً لأعماله في صالات "غاليري كاب"، في الكويت، ونكاد نشعر ونحن نجول بين المعروضات، المنحوتات ذات القياس الصغير، واللوحات الجدارية، بتلك الرغبة التي عبّر عنها وتتنفسها أعماله البرونزية والحجرية والرخامية.
درس سامي محمد فنَّي النحت والرسم في معهد الفنون الجميلة في القاهرة على يد جمال السجيني، وتعرّف هناك إلى حيوية منحوتات الفرنسي رودان، وزار المعابد المصرية القديمة، وشاهد فنونها في المتاحف، ولم يكن منذ تلك الأيام مشغولاً بما يمكن أن نسميه الهمّ "الجمالي"، بل بشيء أبعد من ذلك، وإن كان يحتفظ لتأمل الكتلة وما يمكن أن توحي به بنصيب في مخيلته. كان مشغولاً بما يصرُّ عليه دائماً، بالفكرة، فهي التي تسبق كل شيء لديه.
يقول في سياق تجربته الطويلة: "الخبرة التقنية التي اكتسبتها، دراسة وممارسة، تشريحاً وتلمساً لصلابة وليونة الحجارة والطين وبرودة البرونز، متوفرة لديّ، ولا قلق عندي بشأنها. ما يقلقني هو الفكرة؛ كيف أجسّدها بكل قوتها وعنفوانها".
أحياناً، كما حدث مع منحوتة "صبرا وشاتيلا" الشهيرة، ظلّ الفنان يجسّدها، ومرة بعد مرة يعود فيحطمها، لأن "فكرته" لم تجد متنفساً في الكتل التي كان ينجزها، بمنحنياتها وثقلها وأشكالها البشرية. وحين لاحظنا شبهاً قريباً بين تمثاله المقيد إلى عمود وهو يحاول نزع قيده فيحطم العمود، وتمثال من الفخار لسجين مقيد إلى جذع شجرة ينتسب إلى حضارة المايا في أميركا الوسطى، لم يستغرب هذا الشبه، لأن أفكاراً مثل نزعة التحرر ورفض القيود تتخطى الأزمان والأمكنة.
لماذا الفكرة أولاً، والحجر والألوان ثانياً؟ لأن أعماله كلها، وهذا هو جوابه القاطع، هي دفاع عن قضية. وبالطبع من تملك عليه نفسه من كل أقطارها قضية من القضايا، وهي هنا قضية حرية الإنسان وتحرره، ورفضه كل صنوف التعمية والتضليل، لا يمكن أن يسمح لكتلة أو لطخة لونية أو خطاطات عابرة أن تلهو به، أو تجرفه بعيداً عمّا يعتقد أنه جدير بالإنسان والإنسان جدير به.
الخمسون عاماً المستعادة التي يشهدها الجاليري حالياً ثرية ثراءً لا يصدق، سواء كان ثراء الخامات المتنوعة، أو الانتقالات من فكرة إلى أخرى على هيئات كان الفنان يطلق عليها تسمية "المجموعة"، فلديه مجموعة "المنحنيات"، و"المكبلين"، و"الاستنجاد"، و"الرعب"، و"الرماديات"، و"توقفوا"، و"غضب"..
ومن الواضح أن هذه المجموعات تمثل مراحل فكرية وعاطفية فردية/ اجتماعية تسلسلت طيلة السنوات الماضية، ولم تكن تخلو من وقفات تجد فيها الجماليات مساحة، وهو ما تمثله مرحلة مشروع "السدو" (طراز من التطريز البدوي) الذي بدأه في العام 1979، وكان آنذاك عائداً من الولايات المتحدة بعد أن التحق هناك بـ"معهد ومحترف جونسون التقني للنحت" لبضع سنوات.
ويكشف هذا المعرض الاستعادي عن أن سامي محمد لم يحظ، رغم رسوخه وتفرده في فن النحت والرسم، بمعرض خاص به إلا مرتين، الأول في العام 1994، والثاني في العام 2006! مع أنه أول فنان من بين أقرانه من فناني الكويت تدخل أعماله صالة المزاد الدولي، "كريستيز"، وتقتنى في متاحف عالمية. وما تزال منحوتاته، الغاضبة والصارخة والمقاومة، بقياسها الصغير، تنتظر اليوم الذي تتحول فيه إلى مقاس أكبر، وتخرج إلى الساحات والميادين فتحرك مشاعر الناس، وتشهد على أن الفن.. يغيّر أيضاً.