تلقي هذه الزاوية الضوء على موقع إلكتروني لمبدع عربي في محاولة لقراءة انشغالاته من خلال فضاء استحدثته التكنولوجيا وبات أشبه ببطاقة هوية للكتّاب.
ظاهرياً، يبدو الكتاب الأخير ("أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول"، (منشورات مسكلياني، 2019) لـ لطفي عيسى (1958)، بعيداً بعض الشيء عن الانشغالات التي عُرف بها المؤرّخ التونسي، إذ انكبّ عمله الأخير على دراسة عناصر من الهوية الجماعية التي تؤثّر في الحاضر التونسي.
وقبل ذلك اشتهرت له أعمال متقاربة الثيمات، أبرزها: "أخبار المناقب: في المعجزة والكرامة والتاريخ" (1993)، و"مميزات الذهنيات المغاربية في القرن السابع عشر" (1994)، و"مغرب المتصوّفة من القرن 10 إلى القرن 17" (2005)، و"كتاب السير: مقاربات لمدونات المناقب والتراجم والأخبار" (2007).
قد نجد حلقة رابطة بين الانشغاليْن في كتاب لعيسى بعنوان "بين الذاكرة والتاريخ" صدر في 2014، وبدا فيه أنه بصدد شحذ أدوات معرفية ونظرية جديدة لمقاربة إشكاليات مختلفة عمّا تصدّت له مؤلّفاته السابقة، ويمكن أن نتخذ طريقاً آخر حين نعتمد أحد المفاهيم الخمسة، التي اقترحها المنظّر الأدبي الفرنسي جيرار جينيت (1930 - 2018)، وهو يدرس في كتابه المرجعي "طروس" (1982)، أشكال العلاقات التي تعقدها النصوص في ما بينها، وإذا كان أشهر هذه المفاهيم ما يعرف بالتناص intertextualité، فإن جينيت ينظّر لعلاقة يسميها بـparatextualité أو النصوص الحافّة، وهي مجموعة الخطابات التي تحيط بالنص دون أن تصبح جزءاً منه، مثل الأعمال الأخرى للمؤلف، أو المقالات النقدية والصحافية حول كتاب ما.
في مدوّنة بعنوان "Grifonnages" (يمكن ترجمتها بالأثر العفوي للكتابة، وهي تسمية قريبة من عنوان كتاب جينيت المذكور آنفاً)، يجمع المؤرّخ التونسي منذ 2011 كلّ ما يحيط بمساره المعرفي من قراءات في كتبه وحوارات معه ومقالات يكتبها من حين إلى آخر في الصحف التونسية والعربية، وبذلك كأنه يطبّق أدوات المؤرّخ على نفسه بمواظبة قلّما نجدها لدى الباحثين في العالم العربي، وقبل ذلك يقترح على قرّائه إطاراً جامعاً يتيح لهم ولوجاً أسهل إلى عوالمه وانشغالاته.
تُخبرنا مدوّنة لطفي عيسى بأن مبحثه أشمل مما تبدو عليه قائمة مؤلفاته، حيث ينشغل بالتاريخ الثقافي، وهذا الفرع من حقل البحث التاريخي يتّخذ محامل كثيرة مادة له، وبذلك يُمكّننا من أن نُبعد أي تناقض قد يذهب إليه من يكتفي بقراءة مؤلّفاته، فيشعر بقطيعة مفاجئة بين أعمال ما قبل 2014 وما بعدها.
لكن المدوّنة تتيح ما هو أوسع، حيث لا تضيء فقط أنشطة المؤرّخ بل تفتح على اهتمامات أخرى كثيرة له، منها انشغالاته السياسية كمواطن متورّط في الشأن العام أو اهتماماته بالفكر الأفريقي. وإلى ذلك، نقف على اهتمامات له ضمن دوائر معرفية أخرى، مثل الأنثروبولوجيا أو قراءاته في الأدب، وكلّ ذلك مما لا تتيحه الكتب، ولعلنا نفهم بعضاً من أدوار هذه التقنيات الحديثة في ثقافة ما.
بذلك لم يجعل عيسى من Grifonnages مدوّنة بالمعنى المعروف، فهو لا يستخدمها لكتابة آرائه، بل جعلها مرآة عاكسة لأنشطته في المجال العلمي وفي الحياة العامة.