زيارة مخيم عين الحلوة

26 اغسطس 2016

من مخيم عين الحلوة (23 أغسطس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
لم يكن ابني يسأل أسئلةً تثير الحزن والكآبة، في زيارته الأولى معي إلى مخيم عين الحلوة قبل ما يقارب خمسة وعشرين عاماً. كان طفلاً لم يبلغ الثالثة بعد. كانت أمه الكردية من حلبجة هي التي انتابها حزن، لأنه في كل بيت دخلته، في حارتنا أو الحارات الأخرى من المخيم، كانت صور الذين قتلوا في الحروب المتتابعة تسيّج الجدران بمشاعر الفقد، وتهمس لساكنيه وزائريه، بحكاية لم يقدر الوقت على إزاحتها من الحضور.
كان ابني يقف هناك في مساحة الضوء الصغيرة التي سمحت بها السقوف والجدران المتلاصقة للبيوت، تحيط به ظلال تخفّف من وطأة حرّ الصيف، وتحميه من وهج الهواء الساخن، وتعطي لذلك الضوء معنىً يزيده تمسكاً بحلم الاتساع والانتشار والسطوع. وكنت لا أدرك تماماً ما الذي تحمله الأيام المقبلة، ولا ما إذا كان ابني سوف يعود إلى عين الحلوة، وهو يتقدّم نحو عامه الثامن والعشرين، باحثاً عن تلك المساحة من الضوء التي كنت أحرص على أن تظل مشعّةً ووقّادة في روحي المتعبة.
أعود وابني، وهو يعود بكاميرته الأليفة لعينيه، ليعيد خلق الوقت، وقته الفتيّ ووقتي الهرم، وكأننا في لحظةٍ نتماهى معاً مع تاريخ اليأس الذي رآه ورأيته في الوجوه، وفي الأزقة، وفي الغبار الكثيف على الحيطان المتآكلة لبيوت المخيم. لم أعرف كيف أجيب على السؤال الصعب الذي يطرحه الابن الشاب. هل كان المخيم أفضل حالاً في زيارتي الأولى عما هو في زيارتي هذه، وأنا على عتبات العقد الثالث من العمر يا أبي؟ كان يمشي في أزقة المخيم، وقد أرجع كاميرته الى حقيبتها، وكان قلبه يرى، وترك لعينيه تسجيل اللحظات، وقد كان يبدو من أهل هذا المكان، وكأن قدميه تعرفان الطرق المغبرّة، والأطفال الذين يكبرون بين ظلّ ونقطة ضوء تتسلل بين كابلات الكهرباء وأغصان شجرة التين، ميتة الثمار التي زرعتها جدتي، مثلما زرعت، في الماضي، غيرها في بلاد صعبةٍ ومستحيلةٍ في قرية جده في سهل الحولة. كل الأصدقاء الذين هرموا وسط هذا البحر الهائج من فقدان الأمل ومن الخوف والطمأنينة المقهورة استقبلوه بكل ما في قلوبهم من حبّ، وكأنه لم يعش بعيداً عنهم. وكثيراً ما يتركنا حبّ اليائسين غرقى أسئلة الحيرة والقلق. في بيتنا المهجور من سنين، قلت له: هنا نمت، وهنا لعبت مع جدتك، وهنا رقدت في حضن أمك، وهي تتذكّر بلادها اليائسة، كما بلاد أبيك، ولكن الغبار اليوم كثّف عذابات الانتظار والأمل الجريح.
لم يعد ابني إلى المخيم، كما يعود مهاجر إلى وطنه، ولا كما يعود شريد إلى بيته، ولا كما يعود طائر إلى ذاكرة المنازل الدافئة، لكنه عاد معي باحثاً عن ماضٍ لا ليستعيده، بل لكي يرحل به إلى مطارح جديدة، فقد يكتشف فيها دروباً خارج منعرجات القنوط والكآبة وانغلاق الاحتمالات.
وقف ابني على حاجز الجيش اللبناني، كما يقف أي فلسطيني وجهته المخيم، واثقاً من خطواته وهو يريد الأزقة التي حفظت ذاكرته الصغيرة، ونظر إلى البوابات الحديدية على المداخل الضيقة، فرأى انحباس الأنفاس، وعندما رأى جدران العزل المحيطة بأرواح السكان اللاجئين، تذكّر صورا لجدران شبيهة في بلاد أخرى. ولمّا مشينا معاً في الشوارع الهالكة، أدرك كم من الصعب يمكن أن تكون رحلة الخروج من الهلاك. وعندما أعادنا الجنود، لأن تصريحه للدخول لم يكن صادراً، ذهبنا لندور حول حدود المخيم الغيتو المحاصر، فكانت الأشرطة الشائكة على الجدران العالية تحبس الأحلام وتجرحها، حين تحاول القفز إلى حيث يمكن للأحلام أن تستغيث بالهواء الطليق. أهنا ولدت يا أبي؟ وهنا عشت، يا ولدي، إلى أن بلغت عمرك الآن، فطرت وطارت معي أحلامي النازفة فوق الأشرطة الشائكة، يا ولدي.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.