زمن الشعوب

03 مايو 2019
+ الخط -
يتمسّك الجزائريون والسودانيون اليوم بالشارع في مواجهة بقايا النظام الرسمي القديم الذي يتهاوى على وقع الاعتصامات والمسيرات التي تجوب أنحاء البلاد، والتي تمكّنت مرحلياً من إسقاط رأس النظام هناك، في انتظار أن "تسقط تاني وتالت"، وفق تعبير الدارجة السودانية.
لعل الموجة الثانية من الربيع العربي التي تعصف بتلك البلدان تؤشر إلى حالة من النضج، خصوصاً ما بعد موجة الربيع العربي الأولى التي وقعت ضحية بين الإسلام السياسي الذي قفز إلى واجهة المشهد محاولاً الاستئثار به والعسكر الذين عادوا محاولين إعادة إنتاج النظام الرسمي العربي القديم.
كانت الموجة الأولى 2011 نتيجة عوامل داخلية عديدة معقدة، كان النظام الرسمي العربي المسؤول عنها، نتيجة عجزه عن الإيفاء بتطلعات ملايين الشباب العربي المتعلم والمثقف، والباحث عن فرص العيش الكريم، في التوازي مع صعود نجم الإسلام السياسي ممثلاً في النموذج التركي الذي كانت التنمية حامله الرئيس، والتي وضعت تركيا الحديثة نموذجاً لثنائية الإسلام و"التنمية والعدالة". ولعل ما يميّز تلك الموجة تصدي الإسلاميين للخطاب العام، وسعياً إلى دفع ذلك التغيير نحو أسلمة الدولة والمجتمع، وهو ما أدى، في النهاية، إلى عجز تلك القوى عن الاستجابة لتطلعات الناس، ما مكّن النظام الرسمي العربي من العودة والانقضاض على ذلك الربيع ومخرجاته، غير أن موجة الربيع العربي اليوم تركّز على رفض العسكرة، وتطالب بالحكم المدني، متجاوزة تلك الثنائية مرحلياً، على أمل أن تتمكّن تلك الشعوب من إنجاز التغيير المنشود.
هذا على المستوى الداخلي، وهو عامل مهم، ولكنه غير حاسم، خصوصاً في ظل التحولات 
الكبرى دولياً، خصوصاً مع الإدارة الأميركية الحالية التي تضع المصالح الاقتصادية عنواناً رئيسياً، متجاوزة الخطاب التقليدي الذي كان يضع الدمقرطة وحقوق الإنسان عنوانين رئيسيين لموقفها من أي تحرك شعبي مع تقديم المصالح الاقتصادية عملياً في الموقف من أي صراع داخلي.
مرت المنطقة العربية بثلاثة أطوار تاريخية خلال المائة عام الماضية. كانت المرحلة الأولى تقوم على تقسيم المنطقة العربية جغرافياً، وفقاً لمصالح الأطراف المنتصرة في الحرب الكونية الأولى، ثم جاءت نتائج الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، لتضع مصالح الأطراف المنتصرة والمتنازعة أولوية صناعة أنظمة عربية مستبدة، وملحقة في تلك الأطراف، متجاوزة مصالح الشعوب، وعلى حسابها.
انتهى الطور الثاني من تاريخ المنطقة بنهاية الحرب الباردة، ومع محاولة الولايات المتحدة الأميركية فرض هيمنتها على العالم، تحت شعار "القطب الواحد"، وهو ما فشل عملياً نتيجة عدة عوامل موضوعية، لعل أبرزها استحالة النهوض بأعباء العالم المعقدة والمتشابكة، وصعود الصين، وعودة روسيا إلى لعب دور على المستوى الدولي، وهو ما أدّى إلى بداية تبلور نظام دولي متعدّد الأقطاب.
كانت المنطقة العربية ضحية مصالح الأطراف الدولية وصراعاتها، وهو ما أدى إلى ظهور 
الحركات الجهادية الإسلامية، والتي كانت في مضمونها رداً على استباحة المنطقة ومقدّراتها، وإن تم توظيف تلك الحركات في سياق الصراع الدولي والإقليمي المحموم.
اليوم، ومع تداعي النظام الرسمي العربي الذي فقد المظلة الدولية التي ترعاه، وتشكل قناعةً لدى الأطراف الدولية أن تجاوز آمال شعوب المنطقة وتطلعاتها سيضع العالم أمام أعباء كبرى، تطاول الأمن والاستقرار الدوليين، تكون مصالح الأطراف الدولية وتطلعات شعوب المنطقة في حالة تطابق أو تقارب، وهو ما سيفتح الأفق للشعوب العربية لإعادة بناء دولها وأنظمتها السياسية، بما ينسجم مع مصالحها وتطلعاتها.
على الرغم من ذلك، تعتقد بقايا النظام الرسمي العربي القديم اليوم أنها، عبر الإصرار على أولوية التنمية والاستقرار، يمكنها إعادة إنتاج النظام الرسمي العربي القديم، وتسويق فكرة أن هذه الشعوب غير جاهزة للديمقراطية، وأن مصالح الأطراف الدولية اليوم تكون في دعم هذا الخيار، وهو خيار يقف حتماً أمام حقيقة التاريخ، وأمام عزم ملايين الشباب العرب الذي يتأثر بالعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الحديث، بينما تقف مؤسسات النظام الرسمي العربي القديم وأدواته عاجزةً عن التأثير في صياغة الرأي العام العربي الذي بقي حبيساً للرقيب الأمني الذي كان يمارس وصايةً على عقول وآمال أجيال كاملة، كانت العصا الغليظة هي السوط الذي يبدد أي بارقة أمل أو سعي إلى التفكير خارج منطق تلك الحقبة الشمولية المظلمة.
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
منصور المعلا

كاتب ومحلل سياسي اردني، بكالوريوس في العلوم السياسية

منصور المعلا